وجلّ ـ ، وسأل رجل مالك بن أنس عن قوله : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) كيف استوى فأطرق رأسه مليّا ، وعلاه الرحضاء ، ثم قال : الاستواء مجهول ، والكيف غير معقول ، والإيمان به واجب ، والسّؤال عنه بدعة ، وما أظنّك إلا ضالّا ، ثم أمر به ، فأخرج (١).
وروي عن سفيان الثّوريّ ، والأوزاعيّ ، واللّيث بن سعد وسفيان بن عيينة ، وعبد الله بن المبارك ، وغيرهم من علماء السّنّة في هذه الآيات التي جاءت في الصّفات المتشابهة ، أن نوردها كما جاءت بلا كيف (٢).
والمذهب الثّاني : أن نخوض في تأويله على التّفصيل ، وفيه قولان :
الأول : ما ذكره القفّال ـ رحمهالله ـ فقال : العرش في كلامهم : هو السرير الذي يجلس عليه الملك ، ثم جعل العرش كناية عن نفس الملك.
يقال : ثلّ عرشه أي : انتقض ملكه وفسد ، وإذا استقام له ملكه واطّرد أمره وحكمه قالوأ : استوى على عرشه واستقرّ على سرير ملكه ، وهذا نظير قولهم للرّجل الطويل : فلان طويل النّجاد ، وللرّجل الذي تكثر أضيافه : كثير الرّماد وللرّجل الشّيخ فلان اشتعل الرّأس منه شيبا ، وليس المراد بشيء من هذه الألفاظ إجراءها على ظواهرها إنّما المراد منها تعريف المقصود على سبيل الكناية ، فكذا هاهنا المراد من الاستواء على العرش نفاذ القدرة وجريان المشيئة ، كما إذا أخبر أنّ له بيتا ، يجب على عباده حجّه ، فهموا منه أنّه نصب لهم موضعا يقصدونه لمسألة ربّهم ، وطلب حوائجهم ، كما يقصدون بيوت الملوك لهذا المطلوب ، ثم علموا منه نفي التّشبيه ، وأنّه لم يجعل ذلك البيت مسكنا لنفسه ، ولم ينتفع به في دفع الحرّ والبرد عن نفسه ، وإذا أمرهم بتحميده ، وتمجيده ؛ فهموا منه أنه أمرهم بنهاية تعظيمه ، ثمّ علموا بعقولهم أنّه لا يفرح بذلك التّحميد والتّعظيم ، ولا يغتم بتركه.
وإذا عرف ذلك فنقول : إنّه تعالى أخبر أنّه خلق السّموات والأرض كما أراد وشاء من غير منازع ، ولا مدافع ، ثمّ أخبر بعده أنّه استوى على العرش ، [أي حصل له تدبير
__________________
(١) ذكره البغوي في تفسيره ٢٥ / ١٦٥.
(٢) السلف والخلف فإنهم مجمعون على ثبوت صفات الله تعالى الواردة في الكتاب العزيز والسنة المحمدية. وإنما خلافهم في تفويض معنى المتشابه وهو مذهب السلف. وفي بيان معناه وهو مذهب الخلف (قال الإمام) السلفي الجليل ابن كثير في تفسيره ما نصه : أما قوله تعالى : ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ فلنا في هذا المقام مقالات كثيرة جدا ليس هنا موضع بسطها. وإنما نسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح مالك والأوزاعي والثوري والليث بن سعد قديما وحديثا. وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله تعالى ، فإن الله لا يشبهه شيء من خقله ولَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى : ١١]. بل الأمر كما قاله الأئمة. منهم نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري قال : من شبه الله بخلقه كفر ، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر. ينظر : الدين الخالص ١ / ٥٧.