هذه الآية تدلّ على أن المراد بقوله : (لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ) جملة اليهود ، ومعنى «قطّعناهم» أي : فرقناهم في الأرض ، وهذا يدلّ على أنّه لا أرض مسكونة إلّا وفيها منهم أمة ، وهذا هو الغالب.
وقوله : «أمما» إمّا حال من مفعول «قطّعناهم» ، وإمّا مفعول ثان على ما تقدّم من أنّ «قطّع» تضمّن معنى : صيّر. و (مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ) صفة ل «أمم».
وقال أبو البقاء : «أو بدل منه ، أي : من أمم». يعني : أنّه حال من مفعول : «قطّعناهم» أي : فرّقناهم حال كونهم منهم الصّالحون.
قيل : المراد ب «الصّالحين» الذين كانوا في زمن موسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ ؛ لأنّه كان فيهم قوم يهدون بالحق.
وقال قتادة : هم الذين وراء نهر وداف من وراء الصّين (١).
وقال ابن عباس ومجاهد : هم الذين آمنوا بالنّبيّ صلىاللهعليهوسلم ك : عبد الله بن سلام وغيره (٢). وقوله : (وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ) أي : من أقام على اليهوديّة.
فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون قوله : (وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ) من يكون صالحا إلّا أنّ صلاحه دون صلاح الأولين ؛ لأنّه أقرب إلى الظاهر؟
فالجواب : أن قوله بعد ذلك : (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) يدل على أنّ المراد من ثبت على اليهوديّة.
قوله : (وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ) «منهم» خبر مقدم ، و «دون ذلك» : نعت لمنعوت محذوف هو المبتدأ ، والتقدير : ومنهم ناس أو قوم دون ذلك.
قال الزمخشري (٣) : معناه : ومنهم ناس منحطّون عن الصّلاح ، ونحوه : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) [الصافات : ١٦٤]. بمعنى : ما منّا أحد إلّا له مقام معلوم. يعني في كونه حذف الموصوف وأقيم الجملة الوصفية مقامه ، كما قام مقامه الظرف الوصفيّ ، والتفصيل ب «من» يجوز فيه حذف الموصوف وإقامة الصّفة مقامه كقولهم : منّا ظعن ومنّا أقام.
وقال ابن عطيّة (٤) : فإن أريد بالصّلاح الإيمان ف «دون» بمعنى «غير» يراد به الكفرة.
قال أبو حيان (٥) : إن أراد أنّ دون ترادف «غيرا» ، فليس بصحيح ، وإن أراد أنّه يلزم أنّ من كان دون شيء أن يكون غيرا له فصحيح ، وذلك إمّا أن يشار به إلى الصّلاح وإمّا أن يشار به إلى الجماعة ، فإن أشير به إلى الصلاح ؛ فلا بد من حذف مضاف ، ليصحّ
__________________
(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٢٠٩ ـ ٢١٠).
(٢) تقدم.
(٣) ينظر : تفسير الكشاف ٢ / ١٧٣.
(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٢ / ٤٧١.
(٥) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٤١٣.