يهمل الأهم الأكمل الأعظم لأجل زيادة لا حاجة إليها ولا ضرورة. فثبت فساد هذه المذاهب ، وأنّه لا يجب على الله شيء أصلا (١).
قوله : (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ) جملة معطوفة على جواب القسم أيضا وأخبر أنّه بعد أن يقعد على الصّراط يأتي من هذه الجهات الأربع ، ونوّع حرف الجرّ فجرّ الأوّلين [ب «من»] والثّانيين ب «عن» لنكتة ذكرها الزّمخشريّ (٢). قال ـ رحمهالله ـ : «فإن قلت كيف قيل : من بين أيديهم ، ومن خلفهم بحرف الابتداء ، وعن أيمانهم ، وعن شمائلهم بحرف المجاوزة؟
قلت : المفعول فيه عدّي إليه الفعل نحو تعديته إلى المفعول به ، فكما اختلفت حروف التّعدية في ذلك اختلفت في هذا ، وكانت لغة تؤخذ ولا تقاس ، وإنّما يفتش عن صحّة موقعها فقط ، فلما سمعناهم يقولون : جلس عن يمينه ، وعلى يمينه ، وعن شماله ، وعلى شماله قلنا : معنى «على يمينه» أنّه تمكّن من جهة اليمين تمكّن المستعلي من المستعلى عليه.
ومعنى «عن يمينه» أنّه جلس متجافيا عن صاحب اليمين غير ملاصق له منحرفا عنه ، ثمّ كثر حتّى استعمل في المتجافي وغيره كما ذكرنا في «تعال». ونحوه من المفعول به قولهم : «رميت على القوس ، وعن القوس ، ومن القوس» لأنّ السّهم يبعد عنها ، ويستعليها إذا وضع على كبدها للرّمي ، ويبتدىء الرّمي منها ، فلذلك قالوا : جلس بين يديه وخلفه بمعنى «في» ؛ لأنّهما ظرفان للفعل ، ومن بين يديه ومن خلفه ؛ لأنّ الفعل يقع في بعض الجهتين كما تقول : جئت من اللّيل تريد بعض اللّيل».
قال شهاب الدّين (٣) : «وهذا كلام من رسخت قدمه في فهم كلام العرب».
وقال أبو حيّان (٤) : وهو كلام لا بأس به. فلم يوفّه حقّه.
ثم قال : وأقول : وإنّما خصّ بين الأيدي ، والخلف بحرف الابتداء الذي هو أمكن في الإتيان ؛ لأنّهما أغلب ما يجيء العدوّ منهما فينال فرصته ، وقدّم بين الأيدي على الخلف ؛ لأنّها الجهة الّتي تدلّ على إقدام العدوّ وبسالته في مواجهة قرنه غير خائف منه ، والخلف جهة غدر ومخاتلة ، وجهالة القرن بمن يغتاله ، ويتطلب غرّته وغفلته ، وخصّ الأيمان والشّمائل بالحرف الذي يدلّ على المجاوزة ؛ لأنهما ليستا بأغلب ما يأتي منهما العدوّ ، وإنما يجاوز إتيانه إلى الجهة الّتي هي أغلب في ذلك ، وقدّمت الأيمان على الشّمائل ؛ لأنها هي الجهة القويّة في ملاقاة العدوّ ، وبالأيمان البطش والدّفع ، فالقرن الذي يأتي من جهتها أبسل وأشجع إذ جاء من الجهة الّتي هي أقوى في الدّفع ، والشّمائل ليست في القوّة والدّفع كالأيمان.
__________________
(١) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٣٤.
(٢) ينظر : الكشاف ٢ / ٩٣.
(٣) ينظر : الدر المصون ٣ / ٢٤٣.
(٤) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٢٧٨.