والكفر العظيم ، فلو كان تعالى مراعيا لمصالح العباد ؛ لامتنع أن يمهله ، وأن يمكنه من هذه المفاسد ، فحيث أنظره وأمهله ؛ علمنا أنّه لا يجب عليه شيء من رعاية المصالح أصلا ، ومما يقوّي ذلك أنّه تعالى بعث الأنبياء دعاة إلى الحقّ ، وعلم من حال إبليس أنّه لا يدعو إلّا إلى الكفر والضلال ، ثم إنّه تعالى أمات الأنبياء الذين يدعون الخلق إلى الحق ، وأبقى إبليس وسائر الشياطين الذين يدعون إلى الكفر والباطل ، ومن كان مريدا لمصالح العباد ؛ امتنع منه أن يفعل ذلك (١).
قالت المعتزلة (٢) : اختلف شيوخنا في هذه المسألة فقال الجبّائيّ : إنّه لا يختلف الحال بسبب وجوده وعدمه ، ولا يضل بقوله أحد إلا من لو فرضنا عدم إبليس ، لكان يضل أيضا ويدلّ على ذلك قوله تعالى : (ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ) [الصافات : ١٦٢ ، ١٦٣] ، ولأنّه لو ضلّ به أحد لكان بقاؤه مفسدة (٣).
وقال أبو هاشم : يجوز أن يضل به قوم ، ويكون خلقه جاريا مجرى خلق زيادة الشّهوة ، فإنّ هذه الزّيادة من الشهوة لا توجب فعل القبيح إلّا أنّ الامتناع منها يصير أشقّ ، ولأجل تلك الزّيادة من المشقّة ، تحصل الزّيادة في الثّواب ، فكذا ههنا بسبب بقاء إبليس يصير الامتناع من القبائح أشد ، وأشق ، ولكنه لا ينتهي إلى حدّ الإلجاء والإكراه (٤).
والجواب : أمّا قول أبي علي فضعيف ؛ لأنّ الشّيطان لا بدّ وأن يزيّن القبائح في قلب الكافر ويحسّنها له ، ويذكره ما في القبائح من أنواع اللّذّات ، ومن المعلوم أن حال الإنسان مع حصول هذا التذكير والتّزيين لا يكون مساويا لحاله عند عدم هذا التذكير والتزيين ، ويدلّ على ذلك العرف ، فإنّ الإنسان إذا حصل له جلساء يرغبونه في أمر من الأمور ، ويحسنونه في عينه ويسهّلون عليه طريق الوصول إليه ، ويواظبون على دعوته إليه ؛ فإنّه لا يكون حاله في الإقدام على ذلك ، كحاله إذا لم يوجد هذا التّذكير والتّحسين والتّزيين ، والعلم بذلك ضروري (٥).
وأمّا قول أبي هاشم فضروريّ البطلان ؛ لأنه إذا صار هذا التّذكير والتّزيين حاملا للمرء على الإقدام على ذلك القبيح كان ذلك سعيا في إلقائه في المفسدة ، وما ذكره من خلق الزّيادة في الشّهوة فهو حجّة أخرى لنا في أنّ الله تعالى لا يراعي المصلحة ، فكيف يمكنه أن يحتجّ به ، والذي يقرره غاية التقرير : أنه لسبب حصول تلك الزّيادة في الشّهوة يقع في الكفر وعذاب الأبد ، ولو احترز عن تلك الشّهوة فغايته أن يزداد ثوابه بزيادة تلك المشقّة ، وحصول هذه الزّيادة من الثّواب شيء لا حاجة إليه ألبتّة ، أمّا دفع العقاب المؤبّد ، فإليه أعظم الحاجات ، فلو كان إله العالم مراعيا لمصالح العباد لاستحال أن
__________________
(١) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٣٣.
(٢) ينظر : المصدر السابق.
(٣) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٣٣.
(٤) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٣٣.
(٥) ينظر : تفسير الرازي ١٤ / ٣٣.