الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (٧٣) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٧٤) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(٧٥)
قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا) الآية.
اعلم أنّه تعالى قسم المؤمنين في زمان الرسول ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ إلى أربعة أقسام وذكر حكم كل واحد منهم ، وتقرير هذه القسمة أنّه ـ عليه الصلاة والسلام ـ لما ظهرت نبوته ودعا النّاس إلى الدّين ، ثم انتقل من مكّة إلى المدينة ، فمنهم من وافقه في تلك الهجرة ، ومنهم من لم يوافقه فيها بل بقي في مكة.
أمّا القسم الأوّل : فهم المهاجرون الأوّلون ، وقد وصفهم الله بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) وإنما قلنا : إن المراد بهم المهاجرون الأولون ؛ لأنّه تعالى قال بعد ذلك : (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا) وقال تعالى : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا) [الحديد : ١٠].
وقال : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) [التوبة : ١٠٠].
القسم الثاني من الموجودين في زمان محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ وهم الأنصار ؛ لأنّه عليه الصلاة والسلام لمّا هاجر إليهم مع طائفة من أصحابه ، فلو لا أنّهم آووا ، ونصروا ، وبذلوا النّفس والمال في خدمة رسول الله صلىاللهعليهوسلم وإصلاح مهمات أصحابه لما تمّ المقصود ألبتّة فحال المهاجر أعلى في الفضيلة من حال الأنصار ؛ لأنّهم السّابقون إلى الإيمان ، وتحمّلوا العناء والمشقة دهرا طويلا من كفّار قريش ، وصبروا على أذاهم ، وهذه الحالة ما حصلت للأنصار. وفارقوا الأوطان ، والأهل ، والأموال ، والجيران ، ولم يحصل ذلك للأنصار ، وأيضا فإنّ الأنصار اقتدوا بهم في الإسلام ، وهم السابقون للإيمان.
ولمّا ذكر الله تعالى هذين القسمين ، قال : (أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) قال الواحديّ عن ابن عباس وغيره من المفسرين «المراد في الميراث» (١) وقالوا : جعل الله تعالى سبب الإرث الهجرة ، والنصرة دون القرابة ، وكان القريب الذي آمن ولم يهاجر لم يرث ؛ لأنّه لم يهاجر ولم ينصر.
واعلم أنّ لفظ الولاية غير مشعر بهذا المعنى ؛ لأنّ اللفظ مشعر بالقرب على ما تقرّر في هذا الكتاب.
__________________
(١) ذكره الواحدي في «الوسيط» (٢ / ٤٧٤) ، والبغوي (٢ / ٢٦٤) والقرطبي (٨ / ٣٨).