الأصول ، وهذه الأشياء التي ذكرت ، فإنما هي مخلوقات تنتقل من خلق إلى خلق في الحالات ، وكذلك قال فيها وسمّاها بالخلق ، ودعاها رب الأرباب ، فيما نزل من محكم الكتاب ، ألا تسمع كيف يذكر أنه خلقها؟ ولم يذكر في شيء من ذلك أنه أمرها ، وذلك قوله : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٢ ـ ١٤] ففي ذلك يذكر تبارك وتعالى أنه خالق مصور لعبده ، منقل له في هذه الأشياء ، ولم يذكر فيما احتججت به في هذه الآية له دون الخلق أمرا ، والخلق من الله فلا اختلاف بيننا وبينكم فيه ، وإنما الاختلاف بيننا وبينكم في الأمر الذي أزحتموه عن معنى الخلق ، ولم تقيسوه عليه طمعا أن تثبتوا قدم الإرادة على الفعل من الله الحميد ، فتثبتوا عليه بذلك سبحانه التشبيه ، وتدفعوا التوحيد ، فتشاركوا النصارى في قولها ، وتمازجوا بأموركم أمرها ، ولو أنكم أنصفتم عقولكم ، وتركتم المكابرة عنكم ، ثم رددتم متشابه الأمور إلى محكمها ، وما شذ من فرعها إلى أصلها ثم نظرتم إلى أمر النطفة مم هي ومم كانت حتى تنتهوا إلى ما منه ابتدئت وبانت (٨٩) ، لوجدتم أصل ذلك إن شاء الله من الطين ، وأصل الطين فمن الماء بأيقن اليقين ، وكذلك فأصل خلق الشياطين فمن مارج من نار. فإذا رجعتم إلى الأصول الثلاثة المبتدعة المفطورة من الريح الجارية المسخرة ، وما خلق سبحانه من الماء ، وما فطر فوقه من عجيب الهوى ، ثم خلق من هذه الثلاثة الأشياء جميع ما ذرأ وبرأ ، لكان حينئذ يصح لكم القياس ، ولا يقع عليكم إن شاء الالتباس ، ويبطل الأمر الذي تقولون به وتذهبون إليه ، إذ لا بد أن تقروا أن هذه الثلاثة الأشياء خلقت وابتدعت من غير ما أصل مبتدأ ، وأن الله الأول الموجد لأصل كلما يوجد ويرى ، فيسقط ما قلتم به في معنى القول من الله للشيء أنه أمر من الآمر للمأمور ، ويثبت القول للموحدين ، بأن القول من الله للشيء هو الإيجاد له والتكوين والتقدير ، والإخراج من العدم إلى الوجود والتصوير ، أو يثبتوا مع الله في الأزلية
__________________
(٨٩) في (ب) : وكانت.