الخالق للمخلوقين غير الله رب العالمين ؛ لأن الله سبحانه وجل عن كل شأن شأنه لا يخلق إلا ما يشاء ، ولا يشاء إلا ما يريد من الأشياء ، وكذلك قال الرحمن فيما نزل من الفرقان : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) [القصص : ٦٨] وقال سبحانه : (إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) [الحج : ١٤] ، وقال سبحانه : (وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) [الحج : ١٨] ، ففي كل ذلك يخبر أنه لن يفعل إلا ما يشاء ولن يشاء إلا ما يريد من الأشياء ، وكذلك الله تبارك وتعالى. أولا ترى أن الفاعل لما لا يريد فجاهل مذموم من العبيد ، فكيف يقال بذلك في الله الواحد الحميد؟!
ومن الحجة على من قال : إن الإرادة من الله سابقة للمراد ، وإنها في الله ذي العزة والإياد كالعلم والقدرة ، وإنه لم يزل مريدا كما لم يزل قادرا عالما أن يقال له (٨٤) : هل كان الله في الأبد والقدم خالقا لما أراد أن يخلق ، إذ لم يزل في قولك مريدا للخلق كما أنه لم يزل عالما بما يكون ، قادرا على فعل ما يشاء إذا أراد فعله وشاءه؟ فإن قال : نعم ؛ فقد أثبت الخلق مع الخالق في القدم ، فتعالى عن ذلك ذو الجلال والكرم ، إذ قد جعل معناه ومعنى غيره من العلم والقدرة سواء ، ومتى كانا سواء فلم يفترقا في سبب ولا معنى ، فكل ما نزل بأحد هذه الثلاثة الأشياء من العلم ، والقدرة ، والإرادة فهو نازل بصاحبيه ، وحال بمشاكليه ، ومحيط بمناظريه ، ولا يخلو من جعل المشيئة والإرادة كالعلم والقدرة من أن يحمل العلم والقدرة على معنى المشية والإرادة ، أو أن يحمل معنى المشية والإرادة على معنى العلم والقدرة ، فإن حمل العلم والقدرة على معنى الإرادة والمشية والخلق جعلهما مخلوقين محدثين بأحق الحق ، وإن حمل معنى الإرادة والمشية والخلق على معنى العلم والقدرة جعل الإرادة والمشية والخلق شيئا قديما أزليا ، وفي أزلية الإرادة أزلية الخلق ، وفي ذلك إبطال التوحيد ، والشرك بالله الواحد الحميد. فقد بطل قول من قال بأحد هذين المعنيين لما بان لأهلهما فيهما من الفساد في كلتا الحالتين ، وثبت ما قلنا به من أنه لا فرق بين إرادة الله ومراده ، وأن الإرادة منه هي المراد وأن مراده هو الموجود المدبّر الكائن المخلوق المجعول ،
__________________
(٨٤) في (ب) : لهم.