وأعطى إبليس اللعين ما أعطاه من الفهم والتمييز لأن يطيعه ولا يعصيه ، وأراد أن يطيعه تخيرا وإيثارا لطاعته ، فكانت هذه إرادة معها تمكين واستطاعة ، ولم يرد أن يطيعه قسرا ، ولا أن يمنعه من المعصية جبرا ، (فيكون إبليس اللعين في ذلك غير محسن ولا مسيء فلم يحل بينه وبين المعصية قسرا ، ولم يحمله على الطاعة جبرا) (٢١٧) فمكنه وهداه ، ثم أمره ونهاه ، فرفض ـ له الويل ـ تقواه ، واتبع هواه ، وكفر نعم ربه ، وكره تنزيله وحكمه ، فكان كما قال الله سبحانه : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) [محمد : ٨] ، فلو كانت الكراهة لما أنزل الله قضاء له فيهم ، وفعلا أدخله سبحانه عليهم ، لكانت من الله ، لا منهم ، ولكان الكاره لتنزيله لا هم ، ولكانوا ناجين من العقاب ، وكانوا متصرفين في أمره في كل الأسباب. وكذلك المهتدون ، لو كان هو الذي فعل هداهم ، وزادهم في تقواهم ، لم يقل : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) [محمد : ١٧] ، ولو كان ذلك كما يقول الجاهلون ، وينسب إلى الله الضالون ، لكان من اهتدى ومن كره وأبى في الأمر عند الله شرعا واحدا ، إذ كان كلهم في أمره وقضائه له مطيعا متقلبا متصرفا في إرادته سريعا.
وأما قوله : من أين علم إبليس أن آدم يكون له ذرية؟ وأن الموت يقضي عليهم؟
فإن جوابنا له في ذلك : أن الله أعلمه ملائكته ، فسمعه إبليس من ملائكة الله فيما كان يسترق من السمع كما قالوا وحكى الله عنهم في قوله : (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) [الجن : ٩] ، فكانوا ـ قبل أن يبعث الله نبيه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ويكرمه بما أكرمه من الوحي إليه ـ يسترقون السمع ، فلما أن بعثه الله حجبهم عن المقاعد التي كانوا يقعدونها من السماء ويسترقون من الملائكة الأخبار فيها ، فيهبطون بها إلى إخوانهم من كهنة الإنس وأوليائهم ، كما قال ذو المن والجلال : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) [الأنعام : ١١٣] ، فلما أرسل الله رسوله بالوحي البالغ ، والنور الساطع حجبهم عن
__________________
(٢١٧) ساقط من (أ ، ج).