بالطاعة أنفسهم من نحل العاصين ، واستوجبوا بذلك اسم المؤمنين ، فكانوا كما قال فيهم ووصفهم رب العالمين حين يقول : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) [الأنفال : ٢] ، فخافوا ربهم واهتدوا ، ومن عذابه نجوا. فلما أعلم الله العباد أجمعين أن الجنة مصير المؤمنين ، وأن النار مقر الفاسقين ، (ليحذر أولو الألباب النيران) (٢٣٤) ، فأعملوا أنفسهم في الفرار إلى الرحمن ، راغبين فيما رغبهم فيه من الجنان ، فسبحان من لطف بعباده بما جعل لهم من النار في بلاده ، تخويفا وترهيبا ومنافع وتقوية وترغيبا ، (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأنفال : ٤٢]. ثم قال : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [الأنعام : ١٦٠] ، وقال : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة : ٩] ، فجعلها لهم في الدنيا مزجرة وتخويفا وتحذيرا من نار (٢٣٥) الآخرة ، مع ما لهم فيها في دار الدنيا من المنافع التي لا تحصى ، والمرافق الجمة التي لا تستقصى ، بها يطبخون ويخبزون ، وبها من القر يحترسون ، وبها في ظلمات الليل يبصرون ، وبها ينالون من الحديد ما ينالون من تصريفه في أسبابهم ، وتقويمه لمعاشهم (٢٣٦) من أدوات حرثهم وحفرهم ، وغير ذلك من منافعهم ، وما يعدون لأعداء الله من السلاح ، من السيوف والدروع التي تقيهم بأسهم ، كما قال سبحانه : (وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ) [الأنبياء : ٨٠].
ألا ترى وتسمع كيف قال رب العالمين حين يذكر بالآية عباده المتقين ، فقال : (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ) [الواقعة : ٧١ ـ ٧٣] ، فجعلها الله الواحد الأعلى منفعة في الدنيا للخلق طرا ،
__________________
(٢٣٤) في (ب) : حذر أولو الألباب النيران.
(٢٣٥) سقطت من (ب).
(٢٣٦) في (أ) : في معاشهم.