كان ذلك تكذيبا منهم ، فقل : فإن الله قد قال أيضا : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ) [الأنعام : ١٢٣] ، ألا يرون أن الله يخبر أنه قد جعل في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها؟ فإن قالوا : إنه لم يجعلهم فيها ليمكروا فيها ؛ كان ذلك تكذيبا منهم ، وإن أقروا كان ذلك نقضا لقولهم.
وقد قال الله لقوم فرعون : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ) [القصص : ٤١] ، فإن قالوا : نعم ؛ كان ذلك نقضا لقولهم ، وإن قالوا : لا ؛ فقد كذبوا ، والله يقول : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) [النحل : ٨٠ ـ ٨١] ، ألا ترى أن الناس هم غزلوا ونسجوا ، وعملوا الدروع واتخذوا المساكن والبيوت ، ثم نسب ذلك منه وإليه ، وأخبر أنه خلقه ، فمنّ به عليهم ، وذلك أنه أراده ، فكان ما أراده ولم يأمر به.
تمت مسألته
جوابها :
وأما ما سأل عنه من قول الله عزوجل : (إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً) ، فتوهم وظن ، فقال : إن الله جعل على قلوبهم أكنة حتى لا يفقهوه ، وفي آذانهم وقرا ، وأن ذلك من الله فعل بهم ليشقيهم ؛ وليس ذلك ـ لعمره ـ كذلك ، ولو كان الله عزوجل الذي حجب قلوبهم وآذانهم عن ذلك لم يبعث الرسل إليهم ، ولم يحتج ببرهانه عليهم ، وكانوا عنده في تركهم لذلك معذورين ، وكانوا على ذلك مثابين ، إذ هم لما أرسل إليهم به غير مستطيعين ، وقد قال الله سبحانه : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [البقرة : ٢٣٣] ، وقال : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها) [الطلاق : ٧] ، فكيف يكلفهم الائتمار وقد حجب قلوبهم عن الاعتبار؟ فتبارك الله العزيز الجبار.