فلما صار يونس في السفينة وركب أهلها ، واستقلت بهم وطابت الريح لهم ، أرسل الله حوتا فحبس السفينة ، فعلم القوم عند احتباسها أنها لم تحبس بهم ، إلا بأمر من الله قد نزل بهم ، فتشاور القوم بينهم ، وتراجعوا القول في أمرهم ، وما قد نزل بهم وأشفقوا.
فقال لهم يونس : يا قوم أنا صاحب المعصية ، وبسببي حبست بكم السفينة ، فإن أمكنكم أن تخرجوني إلى الساحل فافعلوا ، وإن لم يمكنكم ذلك فالقوني في البحر وامضوا.
فقال بعضهم : هذا صاحبنا وقد لزمنا من صحبته ما يلزم الصاحب لصاحبه ، وليس يشبهنا (٤٤٢) أن نلقيه في البحر فيتلف فيه على أيدينا ونسلم نحن ، ولكن هلموا نستهم ، فمن وقع عليه السهم ألقيناه في البحر.
فتساهم القوم ، فوقع السهم على يونس ، ثم أعادوا ثانية فوقع عليه ، ثم أعادوا ثالثة فوقع السهم على يونس ، فرمى بنفسه ، فالتقمه الحوت ومضى في البحر ، وكان يونس صلى الله عليه ينظر إلى عجايب البحر من بطن الحوت ، وجرت سفينة القوم بهم.
قال : ولبث يونس صلى الله عليه في بطن الحوت ما شاء الله من ذلك ، فاستمط (٤٤٣) شعره وجلده ، حتى بقي لحمه ، ومنع الله منه الموت ، فلما علم الله توبته ، وقد نادى بالتوبة : (أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء : ٨٧] فاستجاب له وتقبل توبته ، ورحم فاقته. فأرسل ملكا من الملائكة ، فساق ذلك الحوت إلى جزيرة من جزائر البحر ، فألقى يونس من بطنه ، وقد ذهب شعره وجلده ، وذهبت قوته ، فرد الله جسمه على ما كان عليه أولا من تمام صورته ، وحسن تقويمه ، وأنبت الله له شجرة اليقطين ، وهي الدباء فكان يأكلها. فلما اشتدت قوته ، واطمأن من خوفه وإشفاقه ، أرسله الله إلى قومه ، وكانوا في ثلاث قرى ، فمضى إلى أول قرية فدعاهم إلى الله وإلى دينه ، فأجابه نصفهم أو أكثر من النصف ، وعصاه الباقون ، فسار بمن أطاعه إلى العصاة لأمره ، فحملهم عليهم
__________________
(٤٤٢) أي : يحسن منا. من هامش (أ).
(٤٤٣) سمط الجدي يسمطه ، وتسمطه فهو مسموط ، وسميط : نتف صوفه بالماء الحار. تمت من القاموس.