يصلي ، فدخلا عليه ففزع منهما ، وظن أنها داهية قد دهته ، وعدو قد هجم عليه في محرابه في وقت خلوته ، فقالا له : (لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ). يريد : أن لا تشطط ، أي : لا تمل مع أحدنا ، فتشطط على الآخر. ومعنى تشطط : فهو تشدد على أحدنا في غير حق. سواء الصراط : فهو معتدله ومستقيمه ووسطه وقيّمة. والصراط : فهو طريق الحق هاهنا وأوضحه.
وكان لداود صلى الله عليه تسع وتسعون منكحا من الحرائر والإماء ، وكان لأوريا هذه المرأة وحدها ، فمثلا أنفسهما لداود بداود وأوريا. فقال أحدهما : (إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها) ـ ومعنى اكفلنيها : فهو ابتعنيها ، وزدنيها إلى نعاجي ـ (وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) ، يقول : شطني في الطلب وألح في تمنيها وطلبها. وذلك أنها لم تكن تسقط من نفس داود من يوم رآها يتذكرها ويتمناها ، فقال داود صلى الله عليه : (قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ). فلما قال هذا لهما تغيبا من بين عينيه ، فإذا به لا يبصرهما ولا يراهما ؛ فعلم عند ذلك الأمر كيف هو وأنهما ملكان ، وأن الله بعثهما إليه لينهياه من غفلته ، ويقطعان عنه بذلك ما في قلبه من كثرة تذكره امرأة صاحبه ، فأيقن أنهما فتنة من الله ، والفتنة هاهنا فهي المحنة.
ومعنى ظن داود : فهو أيقن داود بذلك من الله ؛ فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب إليه من ذلك التمني والذكر لهذه المرأة ، فلم يذكرها بعد ذلك اليوم ، حتى زوجه الله إياها حين أراد تبارك وتعالى ، من بعد أن اختار لأوريا الشهادة فاستشهد ، وصارت إليه. فمن بعد ذلك زوج الله داود امرأة أوريا ، وبلغه أمله وأعطاه في ذلك أمنيته ، فجاءه ذلك وليس في قلبه لها ذكر ، ولا إرادة ولا تمني. ولم يكن لداود صلى الله عليه في أوريا ولا قتله شيء مما يقول المبطلون من تقويمه في أول الحرب ، ولا ما يذكرون من طلبه وتحيله في تلفه بوجه من الوجوه ولا معنى من المعاني. كذب العادلون بالله ، وضل القائلون بالباطل في رسول الله صلى عليه وسلم فهذا تفسير الآية ومخرج معانيها.