الله في كلاءة وحفظ ، فهم الأقلون عددا ، والأعظمون عند الله قدرا ، ولن تخلوا أمة من مغتال لها مفرق لجماعتها ، وآخر داع إلى هداها وصلاحها.
فمن نظر ، فاعتدلت فطرته ، وصفت طبيعته ، وكان نظره بعين النصيحة لنفسه ، قد ملّك عقله الحكم على هواه (١٧) ، وقيّد شهواته بإسار الذل تحت سلطان الحكمة ، فأسلمه ذلك إلى مباشرة اليقين بربه ، فاستلان ما استوعر منه المترفون ، واستأنس إلى ما استوحش منه الجاهلون ، وصحب الدنيا أيام حياته ، وقلبه معلق بالمحل الأعلى ، لا تعتريه سآمة ولا فتور من طلب ما أمّل من عيش مقيم ، قد أيقن بالخلف فجاد بالعطية ، دله الله فاستدل ، وخاطبه ففهم عنه أحسن الإرشاد ، طيبة نفسه بكل ما بذل في جنب الله ، لأنه هجم على اليقين ، وأنس بالتقوى ، فضمنت له النجاة ، وخرج من غمرات الشكوك إلى روح الاستيقان ، فأقام الدنيا مقامها الذي أقامها الله [عليه] (١٨) ، واستهان بالعاجلة وآثر العاقبة ، ومهّد لطول المنقلب ... ولن يعدم أن يكون في الخلق من قد استبهم (١٩) عن الفهم ، وولج في مضايق الحيرة ، أعمى حيران يدعو إلى العمى ويقول : أعتزل البدع ؛ وفيها اضطجع ، ويقول : أجتنب الشبهات ؛ وفيها وقع ، متبع لآثار أوليه ، مقتد بآبائه ، أكثر ما عنده تقليد أسلافه ، وائتمان أكابره ، والإنسان على ما جرت به (١٨) تربيته ، والإلف إلى ما سبق إلى اعتقاده ، ضنين (٢١) بفراق عادته ، لم يتقسم التفتيش قلبه ولم يجتز (٢٠) في طرق البحث فكره ، ولم تميّزه المناظرة ، فلم يعتوره الاحتجاج ، ولم يتنسم روائح اليقين ، ولا نظر في العلل التي معرفتها نهاية الاستبصار ، متوسد غمرة الاختلاف ، وحيرة (٢٢) الفرقة ، غفل عن تمييز
__________________
(١٧) في (ب) : على ما يهواه.
(١٨) ما بين المعكوفين من (ب).
(١٩) أي دخل في طبع البهائم. ا ه من هامش (أ).
(٢٠) عليه. نخ.
(٢١) ضنين أي : شحيح بفراق عادته.
(٢٢) يتحرّ.