قيل له : فإنا نجد الله قد أخبرنا في كتابه أنه من أطاع إبليس ، فإنه من العاصين المعاقبين على ارتكاب ما يأمره بركوبه ، ويزينه له ويوسوس له به ، فقال سبحانه في ذلك : (فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) [ص : ٨٥] ، فهل وجب عندك على من أطاع إبليس وعمل بما يأمره به من المعاصي عقوبة النيران؟
فإن قال : لا ، كفر. وإن قال نعم ، ترك قوله وخرج من حد التقليد ، فلا يجد بدا من أن يقول : إن الواجب عليه عند التباس الأقوال ، واختلاف الأفنان ، أن يرجع إلى عقله في ذلك فيفكر به ، ويميز فينظر بعقله ويتخير لنفسه ، فيتفرع له من عقله من المعرفة ما يقول على الله به الحق ، ويذكره بما يشبهه من الذكر الذي لا يكون إلا له سبحانه فيعلم أن المعرفة كلها خارجة متفرعة من العقل ، وأنه لا يكون معرفة إلا بالعقل ومن العقل.
ومن الدليل على أن المعرفة هي ثبات العقل وكماله ، بأن علمنا أن شراب الخمور ، وأهل الدعارة والشرور ، إذا شربوها زالت عنهم الألباب ، وأنها مضطرة إليه محتاجة ، تعزب بعزوبه ، وتحضر بحضوره ، وتتفرع في ثباته وتعدم عند عدومه ، فعدمت بزواله منهم المعارف حتى يطيح عنهم واضح البيان ، ويزيح بما قد كان مؤديا لهم من بين اللغة واللسان ، وحتى تلتبس عليه حلائله من أخواته ، وأمهاته من خالاته ، ويأتي على لسانه من القذف والفحش والمنكر والدناءة في النادي والجماعات ما يفضحه ويشينه ، وما (٥٤٥) لعله لو عرض مفروجا عليه عند ثبات لبه وتفرع معرفته سوء ما كان منه إذ كان لا معرفة له بما سلف منه في حال كينونته ويأتي متيقظا (٥٤٦) واحدا من أفعاله في عزوب لبه ما فعل ذلك أبدا ، بل لعله يود أنه كان ميتا فانيا ، مفقودا نائيا ، ولا تبين منه الأشياء الفواضح ، والأفعال الطوالح ، ففي أقل ما ذكرنا دليل على أن المعرفة لا تثبت ولا تكون إلا بالعقل ومن العقل.
__________________
(٥٤٥) سقط لفظ (ما) من (ج).
(٥٤٦) حال من فاعل يأتي.