هذا محال ، أن يستجن في جسم واحد روحان. ولا يدخل في جسم جسم ؛ لأن هذا لا يعرف في الأجسام ولا يتهيأ ، ولا يثبت في العقول ، فلما لم تقبله العقول استحال أن يكون شيئا معقولا.
وقال قوم : يلقى إبليس روح الآدمي عند جولانه في وقت منامه ، فيأمره وينهاه ، ويزين له ما يريده ويشاؤه ، وقالوا : لا تكون الوسوسة من إبليس إلا من بعد النوم ، يلقى روح الآدمي عند خروجه من بدنه ، وجولانه بعد نومه ، فيكون منه إليه ما ذكرنا ، ويلقي إليه ما قلنا. فاستحال هذا من قولهم أيضا ، كما استحال القول الأول ؛ لأنا نظرنا في هذا المعنى فوجدناه باطلا ، وبطلانه أنا وجدنا الآدميين ربما أتوا في أنواع المعاصي وألوانها في مجلس واحد بألوان وهم أيقاظ (٥٧٠) غير نيام ، فلما أن وجدناهم يعملون في مجلس واحد ألوانا كثيرة من المعاصي التي يخطر بعضها على قلوبهم بعد بعض ، وتحدث في صدورهم حادثا بعد حادث ، وخاطرا بعد خاطر ، لم يتعملوا قبل ذلك المجلس في شيء منها ، ولم يضمروا جنسا من جنوسها ، علمنا أن ذلك بوساوس الشيطان ومقاربته. ورأينا من كان كذلك يقظان غير نائم ، والمعاصي تأتي منه أولا فأولا في مجلسه ذلك من قذف المحصنات ، وشرب خمر ، وقتل مسلم ، وأخذ مال يتيم ومسكين ، وضرب مؤمن ، وسفك دم حرام ، وشهادة زور ، وكذب وبهتان ، وتشبيه الله سبحانه وتجويره في فعله ، وإكذاب لوعده ووعيده ، وغير ذلك من ألوان الفسق ، مما يأتي به كفرة الخلق ، فلما رأينا هذه الأشياء تكون من فاعلها في أوقات وساعات لم يدخل بينها منه نوم ولا غفلة ، استحال عندنا أن تكون وسوسة إبليس من بعد النوم وخروج الروح ؛ لأن هذه المعاصي كلها في افتراقها وتشتيت أصنافها كانت منه في يقظة لا نوم فيها ، واستحال عندنا قول من قال بهذا الثاني كما استحال قول من قال بالقول الأول ولم نجد بابا أصح ولا أثبت ولا أقوى ولا أجدر أن لا يكسره أحد أبدا مما قلنا من مداناة الشكل لشكله ، وقوة الشبه لشبهه (٥٧١) ،
__________________
(٥٧٠) في (ب) : وهم يقاظى.
(٥٧١) في (ب) : وقوة الشبيه بشبيهه.