من القبور. وبعثرة القبور فهو إخراج ما فيها من الموتى ، وردهم بعد الفناء أجساما أحياء ، وتسوية تفاوتها ، ودكها دكا ، كما قال الله العلي الأعلى : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) [إبراهيم : ٤٨] إلى آخر الآية. وتبديل حالها تسوية خلقها ، وعدل متفاوتها ، وقشع أوشاجها (٥٧٢) وتجديد بهجتها ، واستواء أقطارها ، حتى تكون الأرض مستوية فيحاء معتدلة الأرجاء ، لا تفاوت فيها ولا اختلاف ، بل تكون في ذلك اليوم كلها على غاية الاستواء والائتلاف ، لا يرى شيء من آلة الدنيا فيها ، ولا أثر فعل من أفاعيل الدهر عليها ، فهذا تبديلها وتغييرها. وكذلك تبديل السموات فهو رد الله لها إلى ما كانت عليه في الابتداء ، ثم يردها على ما هي عليه اليوم من الاستواء ، من بعد أن تصير كالمهل. والمهل فهو : شيء يكون كالدهن يخرج من صفو القطران ، فذكر الرحمن أنها تكون في يوم الدين كالمهل السائل بعد التجسيم الهائل ، فهو قوله سبحانه : (يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) [الدخان : ١٠] يريد أنها تعود إلى ما كانت عليه من الدخان ، ثم ترد سماوات مطبقات ، كما خلقت من الدخان أولا سماوات مقدرات مجعولات ، تبيينا منه سبحانه لقدرته ، وإظهارا لنفاذ أمره فيما افتطر من فطرته.
فهذا معنى ما ذكر الله من تبديل الأرض والسماء ، لا أنه يذهب بهما ويخلق سواهما من غيرهما ، وإنما تبديله لهما وتغييره نقلهما من حالة (٥٧٣) إلى حال ، والأصل واحد مستقيم غير فان ولا معدوم. مثل ذلك مثل خلخال من ذهب أو فضة كسر فصيّر خلخالا أوسع منه قدرا ، أو أصغر منه قدرا ، فكان قد بدلت خلقته ، وغيرت صنعته ، ونقلت حالته من حال إلى حال ، ومن مثال إلى مثال ، فبدل تصويره ، وأصل فضته ثابت لم يبدل ولم يغير ، وإنما غير منها خلقتها وتقديرها ، وصورتها وتمثيلها ، والأصل ثابت قائم موجود من العدم سالم. وكذلك تبديل ما يبدل من الحديد ، فيكون أولا سيفا ، ثم يرد خنجرا ، ثم يجعل الخنجر سكينا ، ثم ينقل السكين فيجعل أوتادا وسككا ، فهو ينقل من حال إلى حال ،
__________________
(٥٧٢) في (أ) : أوساخها.
(٥٧٣) في (ب) : من حال.