فدليل الأصل لا يمكن شموله لكلا الطرفين ، لا أنّه شامل والمكلّف لا يقدر على العمل بكلا الأصلين.
نعم ، لو قلنا بحجّيّة الأمارات من باب السببيّة وأنّ قيام الأمارة سبب لوجود مصلحة في العمل توجب العمل على طبقها ـ كما يقوله المعتزلة ـ لكان قيام الأمارتين المتنافيتين في المؤدّى من باب التزاحم ، فإنّ المكلّف لا يقدر على استيفاء كلتا المصلحتين ، وإلّا فملاك الأخذ بكلّ من الأمارتين ـ وهو ترتّب المصلحة على العمل به ـ موجود بحيث لو فرضت ـ محالا ـ قدرة المكلّف على الجمع بين المتناقضين ، لأمره المولى بالعمل على كلتا الأمارتين المتناقضتين في المؤدّى.
وربما يقال بأنّه يمكن أن يكون التخيير تخييرا عقليّا ناشئا من رفع اليد عن ظهور الدليل بالمقدار المتيقّن ، كما إذا قال المولى : «أكرم كلّ عالم» وعلمنا من الخارج بأنّه لا يريد إكرام زيد وعمر ومعا ، فإنّ رفع اليد عن شمول دليل «أكرم كلّ عالم» لزيد العالم وعمرو العالم بالكلّيّة بلا وجه ، إذ لا عذر في ترك إكرام كلّ منهما مع شمول الدليل لهما بحسب الظهور العرفي ، فلا بدّ من رفع اليد عن ظهور الدليل بالمقدار المتيقّن ، وهو الحكم بوجوب إكرام كلّ منهما على التخيير لا التعيين ، وهذه كبرى كلّيّة جارية في كثير من المسائل الفقهيّة ، ويترتّب عليها فوائد كثيرة.
ومن هذا القبيل دليل وجوب صلاة الجمعة يومها ، الظاهر في الوجوب التعييني ، ودليل وجوب الظهر ، الظاهر في ذلك أيضا ، وهكذا إذا ورد في مورد «يجب القصر» وورد في دليل آخر أنّه «يجب التمام» فإنّ مقتضى العلم الخارجي بعدم وجوب الظهر والجمعة معا ، أو وجوب القصر والإتمام معا : رفع اليد عن ظهور الدليلين في التعيين.