ثمّ إنّه تعالى بعد إخباره بهذه الآية العظيمة والمعجزة الباهرة ، وبّخ الكفّار على إنكاره ونسبتها إلى السّحر بقوله : ﴿وَإِنْ يَرَوْا﴾ بأعينهم ﴿آيَةً﴾ ومعجزة عظيمة دالة على صدق النبي صلىاللهعليهوآله كشقّ القمر ، وحنين الجذع اليابس ، والإخبار بالمغيبات وغيرها ﴿يُعْرِضُوا﴾ عن التأمّل فيها ، ولا يعتنوا بها عنادا ولجاجا ﴿وَيَقُولُوا﴾ دفعا لدلالتها على صدق النبي صلىاللهعليهوآله : هذه الخوارق للعادات التي يعجز الناس عن الاتيان بمثلها ﴿سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ﴾ ومطّرد يأتي به محمد على مرّ الزمان بحيث يتبع بعضه بعضا ، أو سحر قويّ محكم بحيث يؤثر في السماويات والفلكيات ، أو سحر مارّ ذاهب لا بقاء له ، وذلك القول لأنّهم أنكروا نبوة محمد صلىاللهعليهوآله عنادا ولجاجا ﴿وَكَذَّبُوا﴾ ه في دعوى رسالته ، أو في إخباره بقرب الساعة ، أو كذّبوا معجزاته ونسبوها إلى السحر والكهانة ﴿وَاتَّبَعُوا﴾ في تكذيبه ﴿أَهْواءَهُمْ﴾ وشهوات أنفسهم على عادتهم القديمة ﴿وَكُلُّ أَمْرٍ﴾ من الخير والشرّ ﴿مُسْتَقِرٌّ﴾ وثابت منته بالآخرة (١) إلى خذلان ونصرة في الدنيا وشقاوة وسعادة في الآخرة.
ثمّ لمّا حثّهم سبحانه إلى الايمان والعمل ببيان اقتراب الساعة وإقامة الدليل عليه بوقوع انشقاق القمر ، وهو من أشراط الساعة ، وتوبيخهم على إنكار المعجزات وتكذيب الرسول صلىاللهعليهوآله واتباعهم هوى أنفسهم ، بيّن سبحانه غاية خبثهم وعدم تأثرّهم بالمواعظ بقوله : ﴿وَلَقَدْ جاءَهُمْ﴾ في القرآن وسائر الكتب السماوية ﴿مِنَ الْأَنْباءِ﴾ الموحشة والأخبار العظيمة الهائلة من ابتلاء الامم الماضية بأنواع العذاب في الدنيا على تكذيبهم الرسل ﴿ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ﴾ ورادع عن التكذيب والعصيان ، ومانع عن السوء والطّغيان ، وصارف عن اتّباع الهوى ، ومن الواضح أنّ تلك الامور التي فيها عظة ، أو الأنباء التي في القرآن ﴿حِكْمَةٌ بالِغَةٌ﴾ غايتها لا خلل فيها ، أو بالغة غاية الإنذار والوعظ ﴿فَما تُغْنِ﴾ ولا تفيد هداية النفوس الخبيثة والقلوب القاسية ﴿النُّذُرُ﴾ والرسل والمواعظ والتخويفات شيئا.
وقيل : إنّ كلمة ( ما ) استفهامية إنكارية ، والمعنى أيّ إغناء وفائدة في النذر إذا خالفوا وكذّبوا (٢) ، وعاندوا ولجّوا ، إذن لا تتعب نفسك الشريفة بالاصرار في دعوتهم إلى الايمان والاتّعاظ ﴿فَتَوَلَ﴾ وأعرض ﴿عَنْهُمْ﴾ ولا تعتن بهم ، وانتظر ﴿يَوْمَ يَدْعُ﴾ إسرافيل الذي هو ﴿الدَّاعِ﴾ لجميع الخلق بنفخة في الصّور ﴿إِلى﴾ المحشر و﴿شَيْءٍ نُكُرٍ﴾ وفظيع لا سابقة لهم به ، وهو أهوال يوم القيامة ، وهم يجيبونه في حال كونهم ﴿خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ﴾ وأذلّة جوارحهم عند رؤية العذاب ، وإجابتهم له بأنّهم ﴿يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ﴾ والقبور انقيادا له ، وينتشرون في الأرض ، ويتفرّقون في أقطارها ﴿كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ﴾ ومتفرّق فيها كثرة وتفرّقا وهم مع ذلك يكونون ﴿مُهْطِعِينَ﴾ ومسرعين في
__________________
(١) أي في آخر الأمر.
(٢) تفسير روح البيان ٩ : ٢٦٩.