فأحسنوا الكيل بعد ذلك.
وقيل : كان أهل المدينة تجّارا يطفّفون ، وكانت بيوعهم المنابذة والملامسة والمخاطرة ، فنزلت هذه الآية ، فخرج رسول الله صلىاللهعليهوآله فقرأها عليهم ، وقال : « خمس بخمس » قيل : يا رسول الله ، وما خمس بخمس ؟ قال : ما نقض قوم العهد إلّا سلّط الله عليهم عدوّهم ، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلّا فشا فيهم الفقر ، وما ظهر فيهم الفاحشة إلّا فشا فيهم الموت ، ولا طفّفوا الكيل إلّا منعوا النبات واخذوا بالسّنين ، ولا منعوا الزكاة إلّا حبس عنهم المطر(١) .
وعن الباقر عليهالسلام قال : « نزلت على نبيّ الله حين قدم المدينة ، وهم يومئذ أسوأ الناس كيلا ، فأحسنوا بعد عمل الكيل » (٢) .
ثمّ وبّخ سبحانه المطفّفين بقوله : ﴿أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ﴾ المطفّفون ولا يحسبون ﴿أَنَّهُمْ﴾ من هذا العمل القبيح الشنيع ﴿مَبْعُوثُونَ﴾ من قبورهم : ﴿لِيَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ لا يقادر قدر عظمته لعظم أهواله وشدائده ، لوضوح أنّ الظنّ بإتيان هذا اليوم كاف في التحرّز من القبائح التي يظنّ الابتلاء بتبعاتها.
وقيل : إنّ المراد من الظنّ العلم (٣) ، لكون النظر في الآية إلى أهل المدينة ، وهم كانوا مصدّقين بالبعث في زمان نزولها. عن أمير المؤمنين عليهالسلام : أليس يوقنون ﴿أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ﴾(٤)﴿لِيَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ أعني : ﴿يَوْمَ﴾ القيامة الذي ﴿يَقُومُ﴾ فيه ﴿النَّاسُ﴾ من قبورهم ﴿لِرَبِّ الْعالَمِينَ﴾ وللمحاسبة عنده ، وحينئذ تظهر لهم عظمة شناعة العمل القبيح وعقابه ، وإن كانوا يرونه في الدنيا حقيرا ، أو يحتمل أنّ المراد من القيام الحضور عنده تعالى.
روي عن النبي صلىاللهعليهوآله أنّه قال : « يقوم الناس مقدار ثلاثمائة سنة من الدنيا لا يؤمر فيهم بأمر»(٥).
وروي عنه صلىاللهعليهوآله : « أنّه يقوم أحدكم في رشحه إلى أنصاف اذنيه » (٦) .
وعن الصادق عليهالسلام قال : « مثل الناس يوم القيامة إذا قاموا لربّ العالمين مثل السّهم في القراب ، ليس له من الأرض إلّا موضع قدمه » (٧) .
أقول : في الآية غاية التهديد حيث أثبت الويل للمطففين ، ثمّ وبّخهم ثانيا بأشدّ التوبيخ ، ثمّ وصف يومهم بالعظمة وما عظّمه الله تعالى كان في غاية العظمة ، ثمّ ذكّرهم القيامة مع غاية الخشوع والذلّة لربّ العالمين الذي هو في غاية العظمة والهيبة والقدرة ، وفيه دلالة على كمال حكمته وعدالته
__________________
(١) تفسير الرازي ٣١ : ٨٨.
(٢) تفسير القمي ٢ : ٤١٠ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٩٨.
(٣) تفسير الرازي ٣١ : ٨٩.
(٤) الاحتجاج : ٢٥٠ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٩٨.
(٥و٦) تفسير الرازي ٣١ : ٩٠ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٣٦٥.
(٧) الكافي ٨ : ١٤٣ / ١١٠ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٩٩.