انْقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ * وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ
حافِظِينَ (٢٧) و (٣٣)﴾
ثمّ بالغ سبحانه في مدح الرحيق بقوله : ﴿وَمِزاجُهُ﴾ وخليطه شيء ﴿مِنْ﴾ ماء ﴿تَسْنِيمٍ﴾ أعني : ﴿عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ﴾ سئل ابن عباس عن تسنيم فقال : هذا ممّا يقول الله : ﴿فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾(١) .
وقال أيضا : أشرف شراب أهل الجنّة هو تسنيم ، لانّه يشربه المقرّبون صرفا ، ويمزح لأصحاب اليمين (٢) .
روي أنّها تجري في الهواء متسنّمة فتنصبّ في أوانيهم ، فاذا ملئت مسك الماء حتى لا تقع قطرة منه على الأرض ، فلا يحتاجون إلى الاستسقاء (٣) .
ثمّ لمّا ذكر سبحانه كرامة الأبرار وعلوّ منزلتهم عنده في الآخرة ، ذكر توهين الكفّار إياهم وتحقيرهم واستهزائهم بهم بقوله : ﴿إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا﴾ وأصرّوا على الكفر والعصيان كأبي جهل والوليد بن المغيرة وأحزابهما ﴿كانُوا﴾ في الدنيا ﴿مِنَ﴾ حال ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالنبي عن صميم القلب ﴿يَضْحَكُونَ﴾ استهزاء بهم لما هم فيه من الفقر والشدّة ، ﴿وَ﴾ إنّ المؤمنين ﴿إِذا مَرُّوا بِهِمْ﴾ وهم في أنديتهم ﴿يَتَغامَزُونَ﴾ ويعيبونهم ، ويشيرون إليهم بالأجفان والحواجب ، ويقولون : انظروا إلى هؤلاء السفهة يتعبون أنفسهم ويحرمونها من اللذات ويخاطرون بها (٤) في طلب ثواب موهوم :﴿وَإِذَا انْقَلَبُوا﴾ وانصرفوا من مجامعهم ﴿إِلى أَهْلِهِمُ﴾ وأقاربهم ﴿انْقَلَبُوا﴾ وانصرفوا حال كونهم ﴿فَكِهِينَ﴾ ومعجبين بما هم فيه من الشرك والتنعّم ، أو متلذّذين بذكر المسلمين بالسوء والاستهزاء.
﴿وَإِذا﴾ يشاهدوا المؤمنين و﴿رَأَوْهُمْ قالُوا﴾ تحقيرا لهم : ﴿إِنَّ هؤُلاءِ﴾ المؤمنين ﴿لَضالُّونَ﴾ حيث تركوا دين آبائهم والتنعّم بالنّعم ، واغترّوا بوعد محمد ووعيده ﴿وَ﴾ الحال أنّ المجرمون و ﴿ما أُرْسِلُوا﴾ من قبلنا إلى المؤمنين ليكونوا ﴿عَلَيْهِمْ حافِظِينَ﴾ يحفظونهم من الضلال ، ويرشدونهم إلى الحقّ والصواب ، فيعيبون عليهم ما يعتقدونه ضلالا. وفيه إشعار بأن تعيين الحقّ والضلال شأن المرسلين من الله ، لا شأن الناس الجهلة والحمقاء.
روى بعض العامة منهم الفخر ، أنّه جاء عليّ عليهالسلام في نفر من المسلمين ، فسخر منهم المنافقون وضحكوا وتغامزوا ، ثمّ رجعوا إلى أصحابهم فقالوا : رأينا الأصلح ، فضحكوا منه ، فنزلت الآيات قبل أن
__________________
(١) تفسير الرازي : ٣١ : ١٠٠ ، والآية من سورة السجدة : ٣٢ / ١٧.
(٢) تفسير الرازي ٣١ : ١٠٠.
(٣) تفسير روح البيان ١٠ : ٣٧٢.
(٤) في النسخة : ويخاطرونها.