ليلة ليتعبّد فيها فأذنوا له (١) في ذلك ، فأقام فيها الليل وحده ، فتغوّط فيها ، وطلى به جدرآنها وإيوانها ومحرابها ، ثمّ خرج منها وهرب ، فانتشر الخبر في الآفاق ، فتنفّر الناس منها ، فلمّا سمع ذلك أبرهة غضب وحلف أن يخرب الكعبة. وقيل : بلغ الخبر إلى النجاشي ، فاغتم لذلك وأغراه (٢) أبرهة وقال : لا تحزن ، إنّ لهم كعبة هي فخرهم فنخرب بنيانها ونبيح دماءها ، فخرج أبرهة بجند كثيف ، ومعه فيل أبيض اللون لم ير مثله في عظم الجثّة وشدّة القوّة ، يقال له : محمود ، فلمّا قرب من الحرم نزل ، وبعث رجلا حبشي (٣) يقال له الأسود ، حتّى انتهى إلى مكّة ، فساق إليه أموال تهامة ومواشيها (٤) .
قيل : لمّا بلغ أبرهة المغمّس - وهو منزل في طريق الطائف - خرج إليه عبد المطّلب ، وعرض إليه ثلث أموال تهامة ليرجع فأبى (٥) .
وقيل : لمّا نزل المغمّس بعث حناطة الحميري إلى مكّة ، وقال له : سل من سيّد هذا البلد وشريفهم ، وقل له : إنّ الملك يقول : إنّي لم آت لحربكم ، وإنّما جئت لهدم هذا البيت ، فان لم تتعرّضوا دونه لحرب فلا حاجة لي في دمائكم ، فإن لم يرد حربي فأتنى به ، فجاء عبد المطّلب ومعه جماعة من بني هاشم ، فسبقهم الرسول إلى أبرهة ، وقال له : جاءك رئيس مكة (٦) .
وقيل : استأذن لعبد المطّلب بعض وزراء أبرهة ، يقال له أنيس سائس الفيل ، وقال : جاءك سيد قريش وصاحب عير مكّة الذي يطعم الناس في السهل ، والوحوش في روؤس الجبال ، فأحسن أبرهه رأيه ، وجلس على السرير ، فأجاز لعبد المطلب في الدخول ، فلمّا ورد قال أبرهة ، ونزل عن السرير [ كيلا تجلسه معه ] ، لأنّه كره أن تراه الحبشة على سرير ملكه ، وجلس مع عبد المطلب على الأرض ، وأكرمه وعظّمه ، وأعجبه حسن كلامه ، وقال في نفسه : لو شفع في انصرافه من البيت لأجابه ، فقال له : فاسأل منّي كلّما تريد. فقال له عبد المطّلب : اريد منك أن تامر بردّ إبلي التي كانت ترعى بذي المجاز ، فساقها بعض جيشك. فقال أبرهة لترجمانه : قل له : لم لم تشفع في البيت الذي يكون شرفا وعزّا لك ولقومك من قديم الدهر ، وأنا اريد أن اخربه ، وما قدر الإبل التي تريدها ؟ !
وقيل : إنّه قال : سقطت من عيني ، جئت لأهدم البيت الذي هو دينك ودين آبائك ، فالهاك عنه ذود اخذلك (٧) .
قال عبد المطّلب : أنا ربّ الابل ، وللبيت ربّ يحفظه كما حفظه من تبّع وسيف بن ذي يزن
__________________
(١) في النسخة : فأذنوه.
(٢) في النسخة : وغراه.
(٣) في النسخة : حبشية.
(٤) تفسير روح البيان ١٠ : ٥١١.
(٥و٦) تفسير روح البيان ١٠ : ١٣. ٥
(٧) الذود : القطيع من الإبل بين الثلاث إلى العشر ، راجع تفسير الرازي ٣٢ : ٩٦.