وكيف يستمعون إذا أسمعوا (٢٠٩) ، ويستبصرون إذا أبصروا ، وينتفعون إذا فكروا ، وهم لا ينالون ذلك ولا يقدرون عليه ، وغيرهم الفاعل له المصرف لهم فيه؟
فتعالى من فعله غير فعل خلقه ، ومن أمر عباده باتباع حقه ، ألا تسمع كيف قوله سبحانه ، وإخباره عن المؤمنين والفاسقين ، فقال : (ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً) [النحل : ٣٠] ، وقال في الفاسقين : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [النحل : ٢٤] ، فمدح المؤمنين على ما قالوا من الصدق في رب العالمين ، وذم الفاسقين على قولهم الباطل في أحسن الخالقين. ولو لم يكن العباد متخيرين ، ولا مما أرادوا متمكنين ، وكان الحامل لهم على أفعالهم ، المدخل لهم في كل أعمالهم رب العالمين ، لكان هو القائل لما نزل من الحق : (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) ، ولم يكن القائلون بما قالوا من قولهم ، والناطقون بما أنطقهم ـ عند العدل الجواد الرءوف الرحيم بالعباد ـ بمذمومين ، ولا عليه بمعاقبين ، ففي أقل من ذلك حجة لذوي الإيمان المميزين.
وأما ما قال : من أنهم إن كانوا صلوات الله عليهم ، قادرين على التبليغ والترك ، وكان تبليغهم اختيارا منهم للطاعة على المعصية ، ولرضاه على سخطه ، فما يدريكم لعلهم قد تركوا وبدلوا وغيروا وخانوا (أو ستروا واجبا (٢١٠)) وخالفوا؟
قيل له : في ذلك من الحجة ، والحمد لله ، أبين البيان ، وأنور القول والبرهان ، ألا تعلم أيها السائل (٢١١) أن الله سبحانه لا يزكي إلا زكيا رفيعا ، ولا يذكر بالطاعة إلا سامعا مطيعا ولا بالأداء إلا مؤديا. وقد وجدنا الله سبحانه ذكر في توراته التي أنزلها على موسى بن عمران تبليغ من بعثه من أنبيائه بوحيه ، من نوح وإبراهيم وغيرهما ، وأثنى عليهم بذلك ، وحض موسى صلوات الله عليه على الاقتداء بهم ، والإيثار لما آثروا من الطاعة لربهم ، ثم
__________________
(٢٠٩) سقطت من (ب).
(٢١٠) سقطت من (ب).
(٢١١) في (ب) : القائل.