فهل يقول أحد من ذوي العقول إن من كانت هذه حاله كان مختوما على سمعه ، ورسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يناجيه ويناديه؟ وهل يجوز على الرسول أن ينادي ويناجي من سمعه مختوم؟
وكذلك كان نظرهم وأبصارهم فيما يأمرهم الله أن يبصروه من السماوات والأرض إذ يقول : (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) [ق : ٦] ، فهل يجوز على الله أن يأمر بالإبصار من هو بالختم أعمى؟ فهذا لا يجوز على ديّان الآخرة والدنيا ، ولن يقدر أحد أن يقول إنهم كانوا عميانا لا يبصرون ، وإنهم كانوا صما لا يسمعون ، ومن ذلك ما قد بان منهم ما كانوا عليه من الكمال والمعرفة ، والعقول والتمييز في كل حال.
فإن قالوا : إن الله طبع على قلوبهم ، وختم على سمعهم وأبصارهم عما جاء به الرسول من الحكمة والقول فقط ، وخلوا وما سوى ذلك ؛ فقد وقعوا في أعظم مما كرهوا من المهالك ، إذ زعموا أن الله سبحانه ختم على سمعهم وأبصارهم ، فلا يبصرونه ولا يسمعونه ، وطبع على قلوبهم فلا يفقهونه ولا يميزونه ؛ ثم أرسل نبيه صلىاللهعليهوآلهوسلم يدعوهم إلى مغالبته ، ونفي ما فعل بهم ربهم وركّب فيهم ، وتغييره ـ تعالى الله عن ذلك ـ وإزاحته عن أنفسهم ؛ إذ كان قد أرسله إليهم يدعوهم إلى الإيمان والاهتداء والخير والبر والإحسان ، والطاعة له ولنبيه والاستماع لأمرهما ، والعمل بالقول وباللسان والضمير بطاعتهما ، وقد علم أنهم لا يقدرون على ذلك. فنسب ، من قال بهذا ، إلى الله العبث والاستهزاء بنبيه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وزعم أن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أتاهم يدعوهم إلى المحال ، ويأمرهم بالمغالبة والدفع لما فعل فيهم ذو الجلال.
ألا تسمع كيف قد أثبت لهم الفهم بما يقال لهم ، والمعرفة بما يتلى عليهم في قوله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ) [محمد : ٢٥] ، فأخبر الله الواحد الجليل فيما أوحي ونزل من التنزيل أن الهدى قد تبين لهم وصح لديهم وثبت في قلوبهم ، ولو لا سلامة القلوب من الختم الذي يذهب إليه الجاهلون ويقول به على الله سبحانه الظالمون ، لم يثبت أبدا في قلوبهم الهدى ، ولو لم يثبت لم يبن. ثم أخبر الله ما سبب ارتدادهم في الطغيان ومعصيتهم من بعد أن بين لهم