ذلك الرحمن ، فقال : (الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ) ، ولم يقل : الرحمن ردهم وأضلهم. ثم أخبر بالسبب الذي كان عنهم ، فتمكن إذ قالوه الشيطان منهم ، فقال سبحانه : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ) [محمد : ٢٦].
ثم أخبر بما يصيرون إليه عند موتهم من ضرب الملائكة لوجوههم وأدبارهم ، فقال : (فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) [محمد : ٢٧] ، ثم أخبر لم فعل ذلك بهم ، وحتم عليهم بضرب الملائكة لوجوههم وأدبارهم ، فقال : (ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) [محمد : ٢٨] ، ثم قال : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها) [محمد : ١٠] ؛ أفيظن أحد ممن وهب لبا وتمييزا وعلما أن الله سبحانه أوجب ما أوجب عليهم ، وذكر ما ذكره عنهم ، وأمرهم بالسير (٢٩٣) في الأرضين ، والنظر في آثار الأولين ممن هلك بما هم عليه من الكفران ، وبما يختارونه من الفجور والعصيان ، ولم يجعل لهم إلى ذلك سبيلا ، ويركب إليهم فيه دليلا ، وهم لا يقدرون على ذلك لما قد فعله بهم من الختم على أسماعهم وأبصارهم والطبع على قلوبهم التي بها يعقلون ، وبسلامتها يميزون ويفهمون؟ كذب العادلون بالله والقائلون الزور على الله ؛ بل سلّم ذلك لهم ، ووفّره لإكمال الحجة عليهم ، ثم أمرهم بالتسديد ، (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ).
ثم نذكر من بعد دفع هذه المهالك ، ونشرح الصدق بما علمنا الله من ذلك ، فنقول :
إن معنى الختم والطبع من الله تبارك وتعالى ، هو على معنى التمثيل لهم والتقريع ، وإثبات الحجة عليهم ، وتبيين ضلالتهم لهم. فيقول سبحانه : إن امتناعكم من فعل الرشد ، وقلة قبولكم له كمن طبع على قلبه ـ بما منعه من لبّه ، وحرمه من تمييزه ونظره وجودة فهمه ، وبما عدم من النظر والغوصان في بحور الفكر ـ من البهائم التي قد منعها الله من ذلك كله ، إذ لم يجعل لها عقولا تميز بها. فلما أن لم يجعل لها سبيلا إلى ما يناله البشر من العقل
__________________
(٢٩٣) في (ب) : بالمسير.