تسويغ التفضيل بغير العمل
فإن قال قائل : كيف يكون الابتداء من الله على غير عمل ولا جزاء؟
قيل له : كذلك الله يفعل ما يشاء ، ويعطي من يشاء على ما يعلم منهم من الاهتداء.
فإن قال : أليس بكمال العقل وتمامه تنال فرائض الله ، وتبلغ إرادة الله في قولكم ، إذ كان قد فضل بعضا على بعض في الزيادات في العقل الذي ينال به كل فعل ، ثم كلفهم كلهم ـ بعد أن فضل منهم بالزيادة في العقل من فضل ـ فرضا واحدا ، وألزمهم شرائع سواء ، لم يرض من أحد منهم بترك خصلة واحدة من ذلك ، ولم يوجب على المفضل بالعقل في الفرض زيادة ركعة واحدة من ذلك ، ولا صيام يوم واحد ، ولم ينقص عن المنقوص في عقله من ذلك الفرض قليلا ولا كثيرا ، فأين النصفة والعدل مع ما ترون من الفعل؟
قيل له : إنك جهلت المعنى ، فأتى قولك على غير الاستواء. إن الله تبارك وتعالى قد عدل بين خلقه ، وساوى بين عباده ، فأعطاهم كلهم من حجج العقل ما بأقل قليله ينالون أداء فرضهم وتمييز أمورهم ، والاستدلال على خالقهم ، فساوى بينهم فيما يستدركون به معرفة أمره ، ويستدلون به على التمييز بين أموره ، ويقفون به على معرفته. فلم يوجب على أحد أمرا ولا نهيا ، ولم يجعله عنده على شيء معاقبا إلا وقد أعطاه من حجة العقل ما ينال به ما ينال غيره ، ممن زاده الله بسطة وآتاه كرامة. فلما أن ساوى بين خلقه في مستدركات حججه ، وبالغات معرفة أداء فرضه ، زاد من شاء من فضله ، وأعطاه ما شاء من كرامته ، من بعد أن قطع عنه حجة غيره بما ركب في صدره من مؤكدات حججه ، التي بأقل قليلهن وأصغر صغيرهن يستدرك أكثر مما افترض عليه ، وينال فوق ما ألزم ، وجعل فيه فرضا لازما مؤكدا ، وأمرا واجبا مشددا ، فزالت عن الله لهم الحجة ، وسقطت عنه سبحانه معاني المظلمة ، وثبت له بذلك معاني الحكمة ، وصحت له النصفة ، وبان عدله في خلقه ، بما ساوى بينهم فيه من حجته.
فإن قال قائل : بين لي قولك ، واشرح لي لفظك بحجة يقف عليها عقلي ، وتكون ظاهرة في صدري؟
قيل له : مثل زيادة الله لمن شاء من فضله ، وتفضيله لمن شاء من عباده على من قد