فيه على مقاله واحدة ، فافترقوا في ذلك على ثلاثة أقاويل ، إذ لم يعرفوا لقول الله وحكمه في ذلك تأويلا ، فقال قوم : لا حد إلا على من قذف حرة محصنة بالإيمان. وقال قوم : بل الحد أيضا على من قذف أمة محصنة بالعفة والإحسان. وقال قوم : بل الحد أيضا على من قذف ذمية محصنة بالعفة ، والحد يقع بإحصان العفة ، فكل عفيفة عن الزنى مجنبة عن هذا المعنى ، كائنة من كانت من حرة أو أمة أو ذمية معاهدة فعلى قاذفها الحد الذي جعله الله في قذفها.
فلما أن اختلفوا كذلك ولم يهتدوا إلى الرشد من ذلك علمنا أن في كتاب الله سبحانه بيان ما فيه اختلف أولئك ، فرجعنا إلى الكتاب نبتغي فيه بيان ذلك ، فوجدنا الله سبحانه يقول : (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) [النور : ٢٣] ، يقول سبحانه : عذاب في الدنيا ، والعذاب في الدنيا فهو الضرب الذي حكم الله به عليهم في الدنيا ، فأما عذاب الآخرة فهي النار وبئس المصير. فبين سبحانه في هذه الآية على من يقع عذابه الذي حكم به على القاذفين ، فذكر على أنه من رمى المحصنات الغافلات المؤمنات. فنظرنا إحصان العفة ، فإذا به لا يكون ولا يصح ولا يثبت إلا بالإيمان ؛ لأن من لم يصح له الإيمان بالله وبرسوله ، والعفة عن إنكارهما وجحدهما وجحد ما جاء به محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم ، لم يصح له اسم العفة عما هو دون ذلك من زنى ولا غيره ، ولم يكن من أنكر الله ولم يعرفه بمعنى من معاني الإنكار من إنكار فطرة فطرها ، أو جحدان آية أنزلها ، أو نفي حجة له احتج بها ، أو دفع رسول من رسله ، أو إنكار فعل من الله في بعثته بداخل في محض العفة ، ولا مشهود له بها عمن غفل من الأمة ؛ لأن من لم يغفل عن كبائر الجحدان ، ودخل في عظائم فوادح العصيان والبهتان كان جديرا حريا بالوقوع فيما دون ذلك من العصيان. والزنى فلا يكون علانية جهارا ، وإنما يفعله أهل هذه الدار في الخفية والاستتار ، ومن حكم عليه بالكفر بالبينة الظاهرة ، فكيف يحكم له مؤمن بالعفة الباطنة ، والعفة فإنما هي مدحة من أكرم مدح المسلمين ، وبها تثبت حقائق الإيمان ، فكيف يحكم بها لمن كان من الكافرين ، وينسب إليها من جحد الدين ، وناصب رب العالمين ، وأنكر فرض طاعة خاتم النبيين ، هذا من القول ما لا يقول به عاقل ، ولا يتعلق بعلائقه إلا عم عن التمييز جاهل. فقد أزاح ولله