الإرادة من الله عزوجل في خلقه على معنيين :
إرادة حتم وجبر وقسر : وهي إرادة الله عزوجل في خلق السماوات والأرض وما بينهما من الخلق من الملائكة والجن والإنس والطير والدواب وغير ذلك. إرادة حتم وجبر ، فجاء خلقه كما أراد ، لم يمتنع منه شيء ، ولم يغلبه شيء من الأشياء كما قال عزوجل : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) [الملك : ٣] ، وقال : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) [فصلت : ١١] ، يقول : كوّنهما فكانتا ، من غير مخاطبة ولا أمر ، وذلك أن الله عزوجل لم يخاطب أحدا من خلقه إلا ذوي العقول من الملائكة والجن والإنس ، وسائر خلقه حيوان لا عقول لها ، وجماد لا روح فيه ، وإنما خاطب الله عزوجل أهل العقول ، وأمرهم ونهاهم ، وأرسل إليهم الرسل ، وأنزل عليهم الكتب ، وبين لهم الحلال والحرام ، فمن أطاع وائتمر بأمره وانتهى عن نهيه استوجب من الله الحفظ والحياطة في دنياه الفانية ، والثواب الجزيل في آخرته الباقية ، ومن عصاه منهم عذبه في الدنيا والآخرة. والذي لا عقل له من خلقه لا يجب له ثواب ولا عليه عقاب.
قال عزوجل : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [النحل : ٤٠] ، يقول : إذا كوناه كان بلا كلفة ولا اضطراب ، ولا تحيل ولا إضمار ولا تفكر ، ولا تتقدم إرادته فعله ، ولا فعله إرادته ، بل إرادته للشيء إيجاده وكونه ، وإذا أراده فقد كونه ، وإذا كونه فقد أراده ، لا وقت بين إرادته للشيء وكونه.
والإرادة الثانية من الله عزوجل : إرادة تخيير وتحذير ، معها تمكين وتفويض ، أراد من خلقه الإيمان على هذا الوجه ؛ لأنه لو أراد منهم الإيمان على نحو ما أراد خلقهم ؛ ما إذا قدر واحد من خلقه أن يخرج من الإيمان إلى الكفر ، كما لا يقدرون أن يتحولوا من صورهم إلى صور غيرهم من الخلق ، ولكن ركب فيهم العقول ، وأرسل إليهم الرسول ، وهداهم النجدين ، ومكنهم من العملين ، ثم قال : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف : ٢٩] ، وقال : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) [الإنسان : ٣] ، وقال : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) [فصلت : ١٧] ، فدل على أنه هداهم ، واستحبوا هم العمى على الهدى اختيارا من أنفسهم واستحبابا ، ثم قال : (اعْمَلُوا