ثمّ إنّه تعالى بعد النهي عن النجوى التي توجب (١) التباغض وشدة الاتّصال في المجلس ، أمر عباده بما يوجب التودّد والتحابب بقوله تعالى : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ عن صميم القلب ﴿إِذا قِيلَ لَكُمْ﴾ [ سواء أ ] كان القائل قريبا أو بعيدا ، أو وضيعا أو شريفا : يا إخواني ﴿تَفَسَّحُوا﴾ وتوسّعوا ﴿فِي الْمَجالِسِ﴾ والأماكن التي تجلسون فيها على المؤمنين الواردين عليكم ﴿فَافْسَحُوا﴾ ووسّعوا عليهم حتّى يجلسوا بينكم ، فإذا تفسّحتم ووسّعتم في المكان على الواردين ﴿يَفْسَحِ اللهُ﴾ ويوسّع ﴿لَكُمْ﴾ فيما تريدون التوسعة فيه من الصدور والرزق والقبر وغيرها.
في فضيلة أهل العلم
قيل : إنّ المراد مجلس النبي صلىاللهعليهوآله ، كان الأصحاب يتضامّون فيه تنافسا على القرب منه ، وحوصا على استماع الكلام (٢) .
عن ابن عباس : دخل ثابت بن قيس بن الشمّاس في مسجد النبي صلىاللهعليهوآله ، وقد أخذ القوم مجالسهم ، وكان يريد القرب من النبي صلىاللهعليهوآله للوقر الذي كان في اذنه ، فوسّعوا له حتى قرب ، ثمّ ضايقه بعضهم ، وجرى بينه وبينهم كلام ، فوصف للرسول صلىاللهعليهوآله محبّة القرب منه ليستمع كلامه ، وأن فلانا لم يفسح له ، فنزلت هذه الآية ، فأمر القوم بأن يوسّعوا ولا يقوم أحد لأحد (٣) .
وقيل : إنّ الأصحاب كانوا يحبّون القرب من رسول الله صلىاللهعليهوآله ، وكان الرجل يكره أن يضيّق عليه ، فربما سأله [ أخوه ] أن يفسح له فيأبى ، فأمرهم الله بأن يتعاطفوا ويتحمّلوا المكروه ، وكان فيهم من يكره أن يمسّه الفقراء ، وكان أهل الصّفّة يلبسون الصوف ولهم روائح (٤) .
وعن مقاتل : أنّ النبي صلىاللهعليهوآله كان يوم الجمعة في الصّفّة ، وفي المكان ضيق ، وكان صلىاللهعليهوآله يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار ، فجاء ناس من أهل بدر ، وقد سبقوا إلى المجالس ، فقاموا حيال النبي صلىاللهعليهوآله ينتظرون أن يوسّع لهم ، فعرف رسول الله صلىاللهعليهوآله ما يحملهم على القيام ، وشقّ ذلك على الرسول صلىاللهعليهوآله ، فقال لمن حوله من أهل بدر : « قم يا فلان ، قم يا فلان » فلم يزل يقيم بعدّة النفر الذين هم قيام بين يديه ، فشقّ ذلك على من اقيم من مجلسه ، وعرفت الكراهة في وجوههم ، وطعن المنافقون في ذلك ، وقالوا : والله ما عدل على هؤلاء ، إنّ قوما أخذوا مجالسهم ، وأحبّوا القرب منه فأقامهم وأجلس من أبطأ عنه ، فنزلت هذه الآية يوم الجمعة (٥) .
وقيل : إنّ المراد من التفسّح والتوسّع في مقاعد القتال ، وكان الرجل يأتي الصفّ فيقول : تفسّحوا
__________________
(١) في النسخة : الذي يوجب.
(٢) تفسير روح البيان ٩ : ٤٠٣.
(٣و٤) تفسير الرازي ٢٩ : ٢٦٩.
(٥) تفسير الرازي ٦٩ : ٢٦٨.