العمل بشيء من المعصية ؛ ممنوعا من ذلك الفريقان ، وكان مستعملا فيما حتم في رقبته وقضى عليه لا يطيق الخروج منه إلى غيره ، فإلى من أرسل الله الأنبياء والمرسلين ، وإلى من دعوا؟ ومن خاطبوا؟ وعلى من احتجوا؟ أم من تبعهم وأطاعهم؟ أم من كانت حاجة العباد إليهم؟ أم ما كان المعنى عند الله سبحانه في إرسالهم؟ أتراه أرسلهم عبثا أم سخريا؟ أم بيانا وتوكيدا للحجة على العباد وتوقيفا؟ فإن كان سبحانه أرسلهم إلى قوم وقد منعهم من طاعته ؛ يدعونهم إلى الدخول فيها وقد حال بينهم وبين ذلك ومنعهم ؛ طالبا للحجة عليهم بلا حجة لازمة بينة ، فهذا أكبر الظلم وأحول المحال.
ليس أحكم الحاكمين يعبث ولا يغلو (١٨٣) ولا يسخر ولا يستهزئ ، ولا خلق الجنة والنار باطلا ، ولا أرسل المرسلين عبثا.
لو كان الله سبحانه على ما يقولون ؛ ما أرسل إلى خلقه رسولا ، ولا دعاهم إلى طاعة ، ولا دلهم على ما يرضيه مما يسخطه ، ولا احتج عليهم بالآيات المعجزات ، ولا بالبراهين الواضحات التي عجز عنها جميع الكهنة والسحرة ، والفراعنة وشياطين الإنس والجن فلم يقدروا أن يأتوا منها بشيء ، مثل التسع آيات التي كانت مع موسى عليهالسلام ، والمعجزات التي جاء بها غيره من الأنبياء ، كل هذا احتجاج من الله سبحانه على خلقه ، ليطيعوا أنبياءه ورسله ، ويجيبوهم إلى خلع الأنداد والأصنام والأوثان والآلهة المعبودة من دونه. ولكن الله سبحانه مكنهم وفوضهم ، وأرسل إليهم الرسل يدعونهم إلى ما هم قادرون عليه ، ويندبونهم إليه ليخرجوهم بذلك من ظلمة الشرك إلى نور الإسلام. ألا ترى إلى قوله عزوجل : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) [البقرة : ٢٥٧] ، فلولا أن الله تبارك وتعالى قد علم أن عباده يقدرون على طاعة رسله ما أرسلهم إليهم ، ولا أمر بطاعتهم ولا حثهم على أداء ما جاءوا به من فرائضه ، وما دعوا به من اتباع مرضاته ، وذلك لما مكنهم الله منه ، وجعل فيهم من القوة
__________________
(١٨٣) هكذا في الأصل.