يا فتح ؛ عسى الشيطان أراد اللبس عليك فأوهمك في بعض ما أودعتُك! وشكّك في بعض ما أنبأتك ، حين أراد إزالتك عن طريق الله وصراطه المستقيم ، فقلتَ (في نفسك) : متى أيقنت أنهم كذا فهم أرباب! معاذ الله! إنّهم مخلوقون مربوبون ، مطيعون لله ، داخرون راغبون. فإذا جاءك الشيطان من قبيل ما جاءك به فاقمعه بما أنبأتك به.
قال فتح الجرجاني : جُعلت فداك (لقد) فرّجت عني وكشفت بشرحك ما لبّس الملعون عليَّ ، فقد كان أوقع في خَلَدي : أنكم أرباب! فسجد أبو الحسن وقال في سجوده : يا خالقي راغماً لك داخراً خاضعاً! ثمّ رفع رأسه وقال لي : يا فتح ؛ (لقد) كِدت أن تهلك وتُهلك! ثمّ استدرك فقال لي : وما ضرّ عيسى إذا هلك من هلك؟! ثمّ قال لي : إذا شئت رحمك الله. (يعني انصرف) ، فخرجت من عنده.
فلمّا كان في آخر منزل (بل بغداد حيث ينفصل الراوي الجرجاني إلى جرجان) دخلت عليه ، فإذا بين يديه حنطة مقلوّة وهو متكئ ويعبث بها (بأنامله) وكان ممّا أوقع الشيطان في خلدي : أنّ الأكل والشرب آفة ، والإمام غير مؤوف فلا ينبغي لهم أن يأكلوا ويشربوا!
فلمّا رآني قال لي : يا فتح ، اجلس ، إنّ لنا اسوة بالرسل ، وهم كانوا يأكلون ويشربون ويمشون في الأسواق ، وكل جسم مغذوّ بغذاء إلّاالخالق الرازق ، فهو جسّم الأجسام ، فهو لا يجُسّم ولا يجزّأ بتناهٍ ، ولا يتزايد ولا يتناقص ، مبرّأ من ذاته عمّا ركّب في ذوات الأجسام. الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد. مُنشئ الأشياء ، مجسّم الأجسام ، وهو السميع العليم ، واللطيف الخبير ، والرؤوف الرحيم. تبارك وتعالى عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً! ولو كان كما وصفوه لم يُعرف الربّ من المربوب. ولا الخالق من المخلوق ، ولا المنشئ من المُنشأ ، ولكنّه فرّق بينه وبين من جسّمه ، وشيّأ الأشياء ، فهو لا يشبهه شيء يُرى ، ولا يُشبه هو شيئاً.