ثمّ اختصّ بالتفضيل والتقديم والتشريف من قدّمته مساعيه ، فكان ذلك ذا الرياستين الفضل بن سهل ، إذ رآه له موازراً ، وبحقّه قائماً ، وبحجته ناطقاً ، ولنقبائه نقيباً ، ولخيوله قائداً ولحروبه مدبّراً ، ولرعيّته سائساً ، وإليه داعياً ، ولمن أجاب إلى طاعته مكافياً ، ولمن عدل عنها منابذاً ، وبنصرته متقرراً ، ولمرض القلوب والنيات مداوياً. لم يثنه عن ذلك قلة مال ولا عوز رجال ، ولم يمل به طمع ولم يلفته عن نيّته وبصيرته وجل ، بل عندما يهوّل المهوّلون ، ويرعد ويبرق له المبرقون والمرعدون ، وعند كثرة المخالفين والمعاندين من المجاهرين والمخاتلين ، أثبت ما يكون عزيمة وأجرأ جناناً وأنفذ مكيدة وأحسن تدبيراً ، وأقوى في تثبيت حق المأمون والدعاء إليه.
حتّى قصم أنياب الضلالة وفلّ حدّهم وقلّم أظفارهم وحصد شوكتهم ، وصرعهم مصارع الملحدين في دينهم والناكثين لعهده ، الوانين في أمره المستخفين بحقه ، الآمنين لما حذّر من سطوته وبأسه.
مع آثار ذي الرياستين في صنوف الأُمم من المشركين ، وما زاد الله به في حدود ديار المسلمين ، ممّا قد وردت أنباؤه عليكم ، وقرئت به الكتب على منابركم ، وحمله أهل الآفاق إليكم وإلى غيركم.
فانتهى شكر ذي الرياستين ـ بلاء أمير المؤمنين عنده ، وقيامه بحقه ، وابتذاله مهجته ، ومهجة أخيه أبي محمّد الحسن بن سهل الميمون النقيبة والمحمود السياسة ـ إلى غاية تجاوز فيها الماضين وفاز بها على الفائزين.
وانتهت مكافأة أمير المؤمنين إياه إلى ما حصل له من الأموال والقطائع والجواهر ، وإن كان ذلك لا يفي بيوم من أيامه! ولا بمقام من مقاماته! فتركه زهداً فيه وارتفاعاً من همته عنه! وتوفيراً له على المسلمين ، وإطراحاً للدنيا واستصغاراً لها! وإيثاراً للآخرة ومنافسة فيها.