الموضع وكثرة خُضرته ، فأمر بقطع شجر طوال لتوضع على العين كالجسر ، وتُعقد له مظلة فوقها من أغصان الشجر ، فجلس فيها ، وطُرح في الماء درهم فقرأ كتابته. ولاحت سمكة نحو الذراع بيضاء كأنها سبيكة فضة ، فجعل لمن يُخرجها جائزة ، فبدر بعض الفرّاشين فأخذها وصعد ، فلمّا وضعها بين يدي المأمون اضطربت وأفلتت إلى الماء ، فنضح من الماء على صدر المأمون ونحره وترقوته وابتلّ ثوبه ، وانحدر الفرّاش فأخذها ثانية ووضعها في منديل بين يدي المأمون ، فأمر المأمون بقليها. ثمّ أخذته الرعدة فغطّي باللحف وهو يصيح البرد البرد ويرتعد كالسعفة ، فحوّلوه إلى خيمته ودُثر واوقدت حوله النيران وهو يصيح البرد البرد! وأُتي بالسمكة المقلية فلم يطعم منها.
وكان مع المأمون ابن ماسويه وبختيشوع الطبيب فسألهما المعتصم عن حال المأمون ، فتقدما إليه وأخذ كل منهما بيديه ، وكان يعرق فالتزقت أيديهما ببشرته لعرقه كأنه زيت! وجهلا حاله. فأحضر المأمون سائر الأطبّاء حوله يؤمّل خلاصه (١).
ولما اشتدّ مرضه طلب ابنه العباس فأتاه مجهوداً وقد نفذت الكتب إلى البلدان وفيها : من عبد الله المأمون وأخيه أبي إسحاق (المعتصم) الخليفة من بعده. فقيل : إنّ ذلك كان بأمر المأمون وقيل : بل كتبوا ذلك عنه في غشيته (٢).
وقيل : لم يوصِ إلّابعد حضور ابنه العباس مع الفقهاء والقضاة والقوّاد والكتّاب ، ثمّ ذكر الطبري له وصيّة مفصّلة قال فيها : ليصلّ عليَّ أكبركم سنّاً من أقربكم إليّ نسباً! وليكبّر خمساً ـ كما على مذهب أهل البيت ولكن بأدعية
__________________
(١) مروج الذهب ٣ : ٤٥٦ ـ ٤٥٧.
(٢) تاريخ الخلفاء للسيوطي : ٣٧١ ، وأصلها في تاريخ الطبري ٨ : ٦٤٧.