وكان المنصور على بساط صوفٍ متلبّد وتحته سيفٌ ذو فِقار ، فأطرق ساعة ثمّ قال : أبطلت وأثمت! وكان عن يساره مِرفقة جرمقانية فرفع ثنيها وأخرج منها إضبارة كتب فرمى بها إليه وقال : هذه كتبك إلى أهل خراسان تدعوهم إلى نقض بيعتي وأن يبايعونك دوني!
فقال : والله ـ يا أمير المؤمنين ـ ما فعلت ، ولا أَستحلّ ذلك! ولا هو من مذهبي ؛ وإني لممّن يعتقد طاعتك على كل حال! وقد بلغت من السنّ ما قد أضعفني عن ذلك لو أردته ، فصيّرني في بعض حبوسك حتّى يأتيني الموت! فهو منّي قريب!
فقال : لا ، ولا كرامة! ثمّ أخذ مقبض السيف فسلّ منه مقدار شبر! ثمّ ردّ السيف وقال :
يا جعفر! أما تستحي مع هذه الشيبة ومع هذا النسب أن تنطق بالباطل وتشق عصا المسلمين! تريد أن تريق الدماء! وتطرح الفتنة بين الرعية والأولياء!
فقال : لا والله ـ يا أمير المؤمنين! ـ ما فعلت ، ولا هذه كتبي ولا خطّي ولا خاتمي! فانتضى ذراعاً من السيف ، ثمّ أقبل يعاتبه وجعفر (عليهالسلام) يعتذر! ثمّ انتضى السيف إلّايسيراً منه! ثمّ أغمد السيف ، وأطرق ساعة ، ثمّ رفع رأسه وقال له : أظنك صادقاً!
ثمّ قال لي : يا ربيع هات العيبة (الوعاء) فأتيته بها ، وكانت مملوّة من العطور الغالية فقال لي : أدخل يدك فيها وضعها في لحيته! وكانت لحيته بيضاء ففعلت ذلك حتّى اسودّت لحيته! ثمّ قال لي : احمله على دابّة فارهة من دوابّي التي أركبها وشيّعه إلى منزله مكرّماً ، وأعطه عشرة الآف درهم ، وإذا ذهبت به إلى المنزل خيّره بين المقام عندنا فنكرمه والانصراف إلى مدينة جدّه رسول الله.