وأنِس المنصور بمالك بن أنس :
نقل ابن قتيبة عن مطرف من أصحاب مالك بن أنس عنه قال : لما وقفنا بمنى (١) أتيت سرادق المنصور وعرّفتهم بنفسي واستأذنت عليه ، فدخل الآذن وخرج فأدخلني ، فقلت له : إذا انتهيت إلى قبة أمير المؤمنين! فأعلمني. فمرّ من سرادق إلى سرادق ومن قبة إلى اخرى ، في كلها أصناف الرجال بأيديهم السيوف المشهورة والأعمدة المرفوعة ، حتّى قال لي الآذن : هو في تلك القبة ، ثمّ تركني وتأخّر عني.
فمشيت حتّى انتهيت إلى قبّته فإذا هو قد لبس ثياباً مقتصدة لا تشبه ثيابه! وقد نزل عن مجلسه إلى بساط دونه تواضعاً لدخولي عليه! وليس معه في القبة إلّا قائم على رأسه بالسيف مصلت! فلمّا دنوت منه رحّب بي وقرّب وقال : هاهنا إليّ فلم يزل يدنيني حتّى أجلسني إليه وألصق ركبتي بركبته! ثمّ قال :
يا أبا عبد الله! والله الذي لا إله إلّاهو ما أمرت بالذي كان ولا علمته قبل أن يكون ، ولا رضيته لمّا بلغني (يعني ضربي) فحمدت الله تعالى على كلّ حال ثمّ نزّهته عن الأمر والرضا به. ثمّ قال :
يا أبا عبد الله ؛ لا يزال أهل الحرمَين بخير ما كنتَ بين أظهرهم! وإني إخالك أماناً لهم من عذاب الله وسطوته! ولقد دفع الله بك عنهم وقعة عظيمة ؛ فإنهم أسرع الناس إلى الفتن وأضعفهم عنها (قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) وقد أمرت أن يؤتى بعدوّ الله (جعفر العباسي) من المدينة على قتب ، وأمرت بضيق مجلسه والمبالغة في امتهانه! ولابدّ أن انزل به من العقوبة أضعاف ما نالك منه!
__________________
(١) قال ابن قتيبة ٢ : ١٧٠ : وذلك في سنة (١٤٨ ه). بل المعروف المشهور عند سائر المؤرخين : (١٤٧ ه).