فقال مالك : أمير المؤمنين أعلى عيناً وأرشد رأياً وأعلم بما يأتي وما يذر ، وإن أذن لي قلت.
قال المنصور : نعم ، فحقيق أن نسمع منك ونصدر عن رأيك.
فقال مالك : أما أهل مكة فليس بها أحد ، واما أهل العراق فقد قالوا قولاً تعدّوا فيه طورهم! وإنّما العلم علم أهل المدينة كما قال الأمير! و (لكن) لكلّ قوم سلف أئمة ، فإن رأى أمير المؤمنين ـ أعزّ الله نصره ـ إقرارهم على حالهم فليفعل.
فقال المنصور : أما أهل العراق فلا يقبل أمير المؤمنين منهم صرفاً ولا عدلاً! وإنّما العلم علم أهل المدينة ، وقد علمنا أنك إنّما أردت خلاص نفسك ونجاتها.
فقال مالك : أجل يا أمير المؤمنين ، فاعفني يعف الله عنك.
فقال المنصور : قد أعفاك أمير المؤمنين (من الإجلاس بمكة) وايم الله ما أجد أعلم منك ولا أفقه بعد أمير المؤمنين (١)!
وللدينوري هنا خبر آخر يفيد أن المنصور كان إلى جانب ما بلغه عن مالك ، بلغه عن ابن أبي ذؤيب (٢) أصعب منه ، وعن ابن سمعان بعكسهما ، وقد مرّ مجلسه السابق مع مالك بلا عتاب ، فليجمعهم هذه المرة ليكون فيه بعض العتاب عليه ، والخبر عن مالك قال :
بعد مفارقتي للمنصور وخروجي عنه ، أتاني رسوله بمنى ليلاً قال : أجب أمير المؤمنين! فلم أشك أنّه للقتل! فعهدت عهدي واغتسلت وتوضأت ولبست كفني وتحنّطت ثمّ نهضت فدخلت عليه في السرادق ، وهو قاعد على فراش قيل إنّه كان من فرش هشام بن عبد الملك كان قد أهداه إليه صاحب القسطنطينية ،
__________________
(١) الإمامة والسياسة ٢ : ١٧٠ ـ ١٧١.
(٢) محمّد بن عبد الرحمن العامري المدني توفي في (١٥٩ ه).