وبلغ ذلك إلى الرشيد فسأله عنه فقال : يا أمير المؤمنين! ما شيء مما رفعني به أمير المؤمنين وبلغ بي من الكرامة والرفعة أحسن موقعاً عندي من هذا المجلس ؛ فإنه يحضره كل قوم مع اختلاف مذاهبهم ، فيحتجّ بعضهم على بعض ، فيعرف المحقّ منهم ويتبيّن لنا فساد كل مذهب من مذاهبهم.
فقال الرشيد : أنا احبّ أن أحضر هذا المجلس واسمع كلامهم ، على أن لا يعلموا بحضوري. قال : ذلك إلى أمير المؤمنين متى شاء (١).
واختار الرشيد يوماً ، وأحضر البرمكي هشام بن الحكم ، وسأله يحيى قال له : يا هشام ، أخبرني عن نفسين اختصما وتنازعا واختلفا في حكم الدين هل يخلوان من أن يكونا محقّين أو مبطلين أو يكون أحدهما محقاً والآخر مبطلاً.
قال هشام : ليس يجوز أن يكونا محقّين.
فقال يحيى : فأخبرني عن علي والعباس لما اختصما في الميراث إلى أبي بكر ، أيهما كان المحق؟
فروي عن هشام قال : كانا محقّين جميعاً ، كما نطق به القرآن في قصة داود عليهالسلام حيث قال : (خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ (٢)) أتقول إن الملكين كانا مخطئين؟! أو أيهما كان مصيباً وأ يّهما كان مخطئاً؟! فجوابك هو جوابي بعينه.
قال يحيى : إنهما في الحقيقة لم يختصما ولا اختلفا في الحكم ، وإنما أظهرا ذلك لينبّها داود على الخطيئة ويعرّفاه الحكم ويوقفاه عليه ، فهما أصابا معاً.
فقال هشام : كذلك علي والعباس لم يختلفا في الحكم ولا اختصما في الحقيقة ، وإنما أظهرا الاختلاف والخصومة لينبّها أبا بكر على غلطه ويوقفاه
__________________
(١) كمال الدين : ٣٦٢.
(٢) سورة ص : ٢٢.