وأي إجماع أقوى من مثل هذا الإجماع الذي جرى عليه قدماء الأصحاب في مقام العمل بعد الغيبة مدة تزيد على ثلاثة قرون ، وشاع بين المتأخرين جريهم على ذلك ، حتى اشتهر التعبير بانجبار ضعف الخبر بعمل الأصحاب. ويعلم من حال من اطلعنا عليه متابعتهم في ذلك لمن قبلهم من أصحاب الأئمة عليهمالسلام وجريهم على طريقتهم ، لامتناع الخروج عن سيرة الأصحاب عادة في مثل ذلك من الأمور المهمة التي يكثر الابتلاء بها. ولا سيما بعد ما تقدم من الشيخ قدسسره.
وأما سيرة المتشرعة فهي لا تخلو عن غموض. فإنه وإن لم يبعد استنكارهم أخذ معالم الدين من غير العادل ، إلا أنه لا يبعد كون منشئها تنفرهم عنه بنحو يغفل عن فرض الوثوق بخبره ـ إما لتحرزه عن الكذب ، أو لاحتفافه بقرائن خارجية ـ حتى ينظر في ذلك ، فلا مجال لجعل سيرتهم من أدلة المنع في المقام ، فضلا عن أن تنهض بمعارضة سيرة العلماء التي تقدم التعرض لها.
وأما سيرة العقلاء ، فقد أشرنا آنفا إلى أنها عمدة أدلة الباب في تحديد ما هو الحجة من أقسام الخبر ، لأنها تابعة لمرتكزاتهم الوجدانية ، ولسيرتهم الخارجية الظاهرة. ولا ريب في عدم أخذ العدالة في موضوعها ، بل يكفي فيه الوثوق بالمخبر.
بل الظاهر أنها أعم من ذلك أيضا ، فهي تشمل خبر غير الثقة في نفسه إذا احتف بما يوجب الوثوق بصدقه من القرائن الداخلية أو الخارجية. فإن القرائن المذكورة وإن لم تكن حجة في نفسها ، إلا أنها توجب حجية الخبر ودخوله في مورد السيرة ، حيث لا يكون العمل به حينئذ تفريطا بنظر العقلاء.
ومن هنا كان الظاهر أن سيرة الأصحاب ـ التي سبق التعرض لها ـ مبنية على سيرة العقلاء ومتفرعة عليها ، فهي كاشفة عن إمضائها شرعا ، لا أنها مبنية على محض التعبد في قبالها.