الثالث : لزوم العسر والحرج من الاقتصار على تقليد الأعلم ، لصعوبة تشخيصه ، وصعوبة رجوع جميع المسلمين له مع اختلاف أماكنهم وتباعد أوطانهم ، فلا يتيسر لهم جميعا استفتاؤه ، ولا يتيسر له إفتاء جميعهم.
وكأن المراد بالحرج الحرج النوعي ـ ليتم الاستدلال في حق من لا يلزم عليه الحرج من رجوعه للأعلم ـ
بضميمة ما يظهر من جملة من النصوص من أن الأحكام الشرعية لم تشرع بنحو يلزم منها الحرج نوعا.
وفيه : أن الترجيح بالأعلمية ـ بمقتضى السيرة ـ لما كان فرع الابتلاء بفتوى الفقيه ، والالتفات للاختلاف ، فهو لا يقتضي رجوع المسلمين لشخص واحد ، بل اكتفاء كل مكلف بالترجيح بها بين من يتيسر له معرفة رأيه عند اختلافهم.
نعم قد يلزم ذلك في عصورنا حيث شاع تسجيل الآراء ، وانتشار الرسائل العملية ، وكثرت وسائط النقل والاتصال. لكن ذلك أمر حادث لا يمكن تفسير التشريع على ضوئه. مع أنه بسبب ذلك لا يلزم الحرج من رجوع الكل لشخص واحد ، حيث يتيسر معه معرفة رأيه لمن يريدها.
غاية الأمر أنه قد يصعب تشخيص الأعلم على الكل ، لعدم تيسر اطلاع أهل الخبرة على حال الكل ، وغلبة اختلافهم في من يتيسر لهم الاطلاع عليه.
لكن ذلك لا يستلزم سقوط اعتبار الأعلمية رأسا ، ولو في حق من يتيسر له ذلك من المكلفين ، أو في حق من يعلم بكونه مفضولا من المجتهدين ، بحيث يحرز لأجله حجية رأيه وجواز الرجوع له ، وترك من يعلم بأنه أعلم منه ، خروجا عن مقتضى السيرة. لعدم نهوض قاعدة نفي الحرج بذلك ، لاختصاصها بنفي الحرج الشخصي ، وبنفي الأحكام الحرجية ، لا تشريع الحكم الذي يرتفع به الحرج ، كحجية رأي المفضول في المقام.
كما أن ما يستفاد من بعض النصوص من عدم تشريع الأحكام بنحو يلزم منها الحرج نوعا لا ينهض ببيان كيفية التشريع الذي لا يلزم منه الحرج النوعي ،