ولذا لا ريب في جريان البراءة من الحكمين معا لو دار الأمر بين الوجوب والحرمة والإباحة ، مع امتناع جعلهما معا أيضا ، ولا فرق بينه وبين ما نحن فيه إلا بالعلم الإجمالي بثبوت أحدهما ، الذي هو ليس فارقا بعد ما سبق من امتناع منجزيته.
وربما يرجع إلى ما ذكرنا ما قد يقال : من أن مقتضى الأصل الإباحة. أما لو أريد بها ما هو أحد الأحكام الخمسة أو ما يعم الأحكام الثلاثة غير التكليفية. فلا مجال للبناء عليه ، لامتناع التعبد ظاهرا بما يعلم بعدم ثبوته واقعا ، بل لا بد من احتمال مطابقة الحكم الظاهري للواقعي.
على أن أدلة البراءة الشرعية لا تنهض بذلك ، لظهور جل أدلتها ـ كحديث الرفع والإطلاق ونحوهما ـ في مجرد السعة ورفع الحرج من حيثية احتمال التكليف ، لا في التعبد بالترخيص ، فضلا عن خصوص الإباحة. وأما مثل : «كل شيء لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه» فهو ـ مع اختصاصه بالشبهة الموضوعية ، كما تقدم ـ ظاهر في التعبد بالحلّ بالمعنى الأعم الشامل للوجوب في مقابل احتمال الحرمة. ولا ينهض بنفي احتمال الوجوب في المقام إلا بتطبيق آخر على الترك يقتضي التعبد بحليته بالمعنى الأعم أيضا الشامل لوجوب الترك ، وهو راجع إلى ما ذكرنا ، لا إلى البناء على الإباحة بأحد المعنيين المتقدمين.
هذا وأما الرجوع لاستصحاب عدم كل من التكليفين بالتقريب الذي تقدم في آخر أدلة البراءة فالكلام فيه مبني على جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي مع عدم لزوم المخالفة القطعية الذي تقدم الكلام فيه في الفصل الثاني.
وينبغي التنبيه إلى أمور ..