وأمّا التحقيق في مسألة ترجيح أحد الخبرين بالأصل وإن قطعنا النظر عن وجوب الأخذ بالأحدث فهو أن يقال : إنّ الأصول العملية بناء على التعويل عليها من باب الظنّ بعدم التكليف في البراءة وببقاء المستصحب في الاستصحاب فلا ينبغي النزاع في الترجيح بالأصول فإنّها حينئذ تفيد تقوية فيما هو ملاك الحجّية ومناط الاعتبار كما في صورة تعدّد الدليل ، وأمّا بناء على القول بها بواسطة القاعدة العقلية والأخبار الواردة فيها من حيث التعبّد بها وإن لم تفد ظنّا كما هو المعروف بين المتأخّرين ، فلا يكاد يعقل الترجيح بالأصل ؛ إذ مفاد كلّ من الأصل والخبر غير مفاد الآخر فإنّ هذا من واد وذاك (١) من آخر ، فلا يحصل تقوية فيما هو المناط في دليلية الرواية ، والترجيح التعبّدي ممّا لا دليل عليه كما هو المفروض ، فلا بدّ من الأخذ بإطلاق أخبار التخيير ، وبذلك يرتفع الشكّ في مورد الأصل فيحكم بالتخيير بين الدليلين وذلك ظاهر.
وقد يتراءى في بادئ النظر تفصيلا وهو أن يقال : إنّ موضوع الأصول قد يكون الشكّ والحيرة ، وقد يكون عدم العلم بالخلاف ، فعلى الأوّل لا وجه للترجيح بالأصل لما عرفت من اختلاف مناطهما ، وعلى الثاني كما ربّما يستظهر من بعض أدلّة الأصول كقوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللهُ )(٢) في البراءة ، وقوله عليهالسلام : « لا حتّى يستيقن » في الاستصحاب ، وقوله عليهالسلام : « كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر » (٣) في أصالة الطهارة ، فإنّ ظاهر هذه الأدلّة جريان الأصول عند عدم العلم بالخلاف ، وذلك لا ينافي العلم بالوفاق ، فيمكن الترجيح بهذه الأصول ؛ إذ لا مانع من ذلك بعد تحقّق مورد الأصل وجريانه.
وهو كلام ظاهري خال عن التحصيل أمّا أوّلا : فلعدم جريان الأصل في مورد
__________________
(١) « م » : ذلك.
(٢) البقرة : ٢٨٦ ؛ الطلاق : ٧.
(٣) تقدّم في ص ١٠٧ مع اختلاف ، فلاحظ.