بل إذا دار الأمر بين حمل الكلام على أمر ارتكازي عرفي وأمر تعبدي كان المتعين الأول ، لأن أنس الذهب به يوجب انصراف الكلام إليه وظهوره فيه ما لم تقم قرينة صارفة عنه ، معينة للثاني.
هذا وقد يدفع الاستدلال بالحديث على القاعدة ، بأنه لا دليل على كون «من» تبعيضية ، بل قد تكون بمعنى الباء أو بيانية أو زائدة.
لكنه يشكل بأن ورود «من» بمعنى الباء وإن حكي عن يونس مستشهدا عليه بقوله تعالى : (يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ)(١). إلا أن من القريب جدا كونها في الآية ابتدائية ، لبيان المنشأ ، نظير قولنا : جرى الماء من الميزاب ، فكأن النظر يصدر من الطرف ، ومنه ينشأ. مع أنه لو سلم كونها بمعنى «الباء» فهي بمعنى «باء» الاستعانة أو الآلة ، لا «باء» التعدية ، ليناسب المقام.
كما أنه لا يبعد رجوع البيانية التي يراد بها بيان جنس ما قبلها ـ نظير خاتم من حديد ـ إلى الابتدائية ـ التي لا مجال لها في المقام ـ أو التبعيضية التي يحاول المدعي الفرار منها ، فكأن المراد : خاتم ناشئ من حديد ، أو بعض منه. مع أنها تختص بما إذا كان ما بعدها جنسا لما قبلها ـ كالمثال المتقدم ـ دون مثل المقام مما وقعت فيه بين الفعل ومتعلقه ، إذ لم يعهد إرادة الجنس حينئذ ، كي يكون المراد هنا : إذا أمرتكم بشيء فأتوا بجنسه ما استطعتم.
وأما زيادة «من» في غير ما إذا كان مدخولها نكرة مسبوقة بنفي أو نهي ، فهي وإن قيل بها في مثل قوله تعالى : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ)(٢) إلا أن الظاهر رجوعها فيه للتبعيضية ، وأن المراد الأمر بتبعيض النظر. إما بلحاظ المنظور ، لأن المنهي عنه هو النظر لبعض الأمور ، كالأجنبية ، أو بلحاظ المرتبة
__________________
(١) سورة الشورى الآية : ٤٥.
(٢) سورة النور الآية : ٣٠.