بني آدم دنيا وآخرة ، فجعل تعالى العالم فاضلا مفضولا ، ـ الوجه الثاني ـ (وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ) بإعطاء كمال الإنسانية بالصورة الإلهية التي خلق عليها بعضهم (لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ) وهم الذين رفعهم الله (بَعْضاً) وهم الأناسي الحيوانيون (سُخْرِيًّا) فجعل تعالى علة التسخير رفعة بعضنا على بعض بالدرجة التي يحتاج إليها المسخر المفعول ، فإن الله قد جعل العالم على مراتب درجات ، مفتقرا بعضه إلى بعض. واعلم أن التسخير قد يكون إذلالا ، وقد يكون القيام بما يحتاج إليه ذلك المسخر له بالحال ، وهذا الفرقان بين التسخيرين بما تعطيه حقيقة المسخر والمسخر له ، فالعبد الذي هو الإنسان مسخر لفرسه ودابته ، فينظر منها في سقيها وعلفها وتفقد أحوالها مما فيه صلاحها وصحتها وحياتها ، وهي مسخرة له بطريق الإذلال لحمل أثقاله وركوبه واستخدامه إياها في مصالحه ، وهكذا في النوع الإنساني برفع الدرجات بينهم ، فبالدرجة يسخر بعضهم بعضا ، فتقتضي درجة الملك أن يسخر رعيته فيما يريده بطريق الإذلال للقيام بمصالحه لافتقاره إلى ذلك ، وتقتضي درجة الرعايا والسوقة أن تسخر الملك في حفظها والذب عنها ، وقتال عدوها والحكم فيما يقع بينها من المخاصمات وطلب الحقوق ، فهذه سخرية قيام لا سخرية إذلال ، اقتضتها درجة السوقة ودرجة الملك ، وبذلك يكون الخلق مسخرا اسم فاعل ومسخرا اسم مفعول ، ففي رفع الدرجات جعل الله التسخير بحسب الدرجة التي يكون فيها العبد أو الكائن فيها ، كان من كان ، فيقتضي الكائن فيها أن يسخّر له من هو في غيرها ، ويسخره أيضا من هو في درجة أخرى ، وقد تكون درجة المسخر اسم مفعول أعلى من درجة المسخر اسم فاعل ، ولكن في حال تسخير الأرفع بما سخره فيه شفاعة المحسن في المسيء إذا سأل المسيء الشفاعة فيه ، وفي حديث النزول في الثلث الباقي من الليل غنية وكفاية وشفاء لما في الصدور لمن عقل ، ولما كانت الدرجة حاكمة اقتضى أن يكون الأرفع مسخرا اسم مفعول ، وتكون أبدا تلك الدرجة أنزل من درجة المسخر اسم فاعل ، والحكم للأحوال ، كدرجة الملك في ذبه عن رعيته وقتاله عنهم وقيامه بمصالحهم ، والدرجة تقتضي له ذلك ، والتسخير يعطيه النزول في الدرجة عن درجة المسخر له اسم فاعل.
(وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ