فيه ـ نظرنا من أين نتوصل إلى معرفته؟ فنظرنا على حكم الإنصاف وما أعطاه العقل الكامل بعد جده واجتهاده الممكن منه ، فلم نصل إلى المعرفة به سبحانه إلا بالعجز عن معرفته ، لأنا طلبنا أن نعرفه طلب معرفة الأشياء كلها من جهة الحقيقة التي هي المعلومات عليها ، فلما عرفنا أن ثمّ موجودا ليس له مثل ، ولا يتصور في الذهن ، ولا يدرك ، فكيف يضبطه العقل؟ هذا ما لا يجوز ، مع ثبوت العلم بوجوده ، فنحن نعلم أنه موجود واحد في ألوهته ، وهذا هو العلم الذي طلب منا ، غير عالمين بحقيقة ذاته التي يعرف سبحانه عليها ، وهو العلم بعدم العلم الذي طلب منا ، لما كان تعالى لا يشبه شيئا من المخلوقات في نظر العقل ، ولا يشبهه شيء منا ، وفي ذلك قال الصدّيق : العجز عن درك الإدراك إدراك ، فجعل العلم بالله هو لا دركه ، من جهة كسب العقل كما يعلمه غيره ، ولكن دركه من جوده وكرمه ووهبه ، أما من جهة الدليل فلا يعرف أبدا إلا معرفة الوجود ، وأنه الواحد المعبود لا غير ، فالحق تعالى هو الموصوف بالوجود المطلق ، لأنه سبحانه ليس معلولا لشيء ولا علة لشيء ، بل هو موجود بذاته ، والعلم به عبارة عن العلم بوجوده ، ووجوده ليس غير ذاته ، مع أنه غير معلوم الذات ، لكن يعلم ما ينسب إليه من الصفات ، أعني صفات المعاني ، وهي صفات الكمال ، وأما العلم بحقيقة الذات فممنوع ، لا تعلم بدليل ولا برهان عقلي ، ولا يأخذها حد ، فإنه سبحانه لا يشبه شيئا ولا يشبهه شيء ، فكيف يعرف من يشبه الأشياء من لا يشبهه شيء ولا يشبه شيئا؟ فمعرفتك به إنما هي أنه ليس كمثله شيء ، ويحذركم الله نفسه ، وقد ورد المنع من الشرع في التفكر في ذات الله ، فلا يعلم من الله إلا وجوده ، وتعلم أفعاله وصفاته بضرب من الأمثلة ، ولذلك فإن التوحيد الذي يؤمر به العبد أن يعلمه أو يقوله ، ليس هو التوحيد الذي يوحد الحق به نفسه ، فإن توحيد الأمر مركب ، فإن المأمور بذلك مخلوق ، ولا يصدر عن المخلوق إلا ما يناسبه ، وهو مخلوق عن مخلوق ، فهو أبعد في الخلق عن الله الذي وجد عنه هذا التوحيد ، فكيف يليق بالجناب العزيز ما هو مضاف إلى الخلق؟ وإن كنا تعبدنا به شرعا ، فنقرره في موضعه ، ونقوله كما أمرنا به على جهة القربة إليه ، مع ثبوت قدمنا فيما أشهدنا الحق من المعرفة به ، من كونه لا يعرف في (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) وفيما ذكره في سورة الإخلاص ، وفي عموم قوله بالتسبيح الذي هو التنزيه (رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) والعزة تقتضي المنع أن يوصل إلى معرفته ، فالأمر هنا الأمر