الآخرة ، فهذا أعطى حكم ما فر منه لما كان منقطعا ، فإنه انقطع بغرقه أو بموته لو مات ، فكانت النتيجة والهبة مناسبة بما أعطيه من انقطاعهما بالموت ، فإن الإمامة والرسالة تنقطعان بالموت ، والفرار إلى الله يعطي ما يبقى ببقاء الله ، ولا أعيّن ، فإن التعيين في ذلك إلى الله ، وإذا كانت هذه الأمة مع الأنبياء بهذا الحكم وهذه المنزلة ، فما ظنك بمنزلة أمم الأنبياء منا؟ والله ما يعرفون على أي طريق سلكت هذه الأمة في فرارها ، فإن الله مجهول الأينية ، والفرار كان إليه ، فلا يدري أحد يفر إليه إذا تلقاه وأخذ بيده إلى أين يسير به؟ فإن الله أسرع إلى من فر إليه في تلقيه من الفار إليه ، فإنه يقول وهو الصادق تعالى : [ومن أتاني يسعى أتيته هرولة] فوصف نفسه بالإقبال على عبده إذا أتاه بأضعاف ما يأتيه به من الحال ، وإتيان الفار إليه أشد من الهرولة ، فيكون إتيان الحق إليه أشد من ذلك ، وأعطى الله هذا لهذه الأمة بعناية محمد صلىاللهعليهوسلم ، وقوله تعالى : (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ) يعود على الاسم الله ، فإذا نظرت تعلم ما هو الاسم الذي من أجله كان الإنذار المبين ، من المنذر لك ، وأن الاسم الله ـ وهو الاسم الجامع ـ هو الذي وجهه إليك ليأمرك بالفرار إليه ، ولما كان في عرف الطبع الاستناد إلى الكثرة ، فإذا حققت معرفة الأسماء الإلهية وجدت أسماء الأخذ قليلة وأسماء الرحمة كثيرة في الاسم الله ، فلذلك أمرك بالفرار إلى الله ، ليحصل للنفس الأمان باستنادها إلى الكثرة ، ثم قال تعالى بعد الأمر بالفرار إلى الله :
(وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ) (٥١)
(وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) تفتقرون إليه ، بل فروا إلى الله في طلب حوائجكم منه التي فطرتم عليها ـ تحقيق ـ من عرف هذا التتميم عرف قوله : (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) أنه الفرار من الجهل إلى العلم ، وأن الأمر واحد أحدي ، وأن الذي كان يتوهمه أمرا وجوديا من نسبة الألوهية لهذا الذي اتخذه إلها محال عدمي ، لا ممكن ولا واجب ، فهذا معنى الفرار المأمور به ، فإليه ـ من حيث نسبة الألوهية إليه ـ يكون الفرار ، فالذي فطر عليه الإنسان والعالم من العلم العلم بوجود الله ، والعلم بفقر المحدث إليه ، فإذا كان هذا ، فلابد لكل من هذه صفته أن يفر إلى الله لمشاهدة فقره ، وما يعطيه حكم الفقر من الألم للنفس ، ليغنيه من انقطع إليه ، فربما يزيل عنه ألم الفقر ، بما يعطيه من لذة مزيلة لألم فقر معين ، لا يزيل عنه ألم