أن يسعى به لنفسه ولغير الله ، نبه أنه ما خلقهم إلا لعبادته فقال : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) فخص الإنس والجن الناري في هذه الآية ، لأنهما ما جبلا على طاعة الأمر دون معصية مثل باقي الخلق ، وإلا فإنه سبحانه قد أوجد العالم ليظهر سلطان الأسماء ، فإن قدرة بلا مقدور ، وجودا بلا عطاء ، ورازقا بلا مرزوق ، ومغيثا بلا مغاث ، ورحيما بلا مرحوم ، حقائق معطلة التأثير ، وما اعتبر الحق من العالم في هذه الإضافة إلا هذين النوعين ، فجعل الظهور للإنس من اسمه الظاهر ، وجعل البطون للجان من اسمه الباطن ، وما عداهما فمسخر لهما ، ويحتمل أن قوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) يعني ظاهرا وباطنا ، فما جعل لهم في الربوبية قدما ، وما قال الله تعالى ذلك في غير هذين الجنسين ، لأنه ما ادعى أحد الألوهية ، ولا اعتقدها في غير الله ، ولا تكبر على خلق الله إلا هذان الجنسان ، فلذلك خصهما بالذكر دون سائر المخلوقات وقال : (إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) أي ليتذللوا إليّ ، لما ظهر فيهما من العزة ودعوى الألوهية والإعجاب بنفوسهم ، فمن لطف الله بهم أن نبههم على ما أراد بهم في خلقه إياهم ، فمن تنبه كان من الكثير الذي يسجد لله ، ومن لم يتنبه كان من الكثير الذي حق عليه العذاب ، والشرك ـ وهو الظلم العظيم ـ ما ظهر في الوجود إلا من هذا النوع الإنساني ، وما ذكر الجن معه في الخلق للعبادة إلا لكونه أغواه بالشرك ، لا أنه أشرك ، والإنس هو الذي أشرك ، واعلم أن السبب الموجب لتكبر الثقلين دون سائر الموجودات ، أن سائر الموجودات توجه على إيجادهم من الأسماء الإلهية أسماء الجبروت والكبرياء والعظمة والقهر ، فخرجوا أذلاء تحت هذا القهر الإلهي ، وتعرف إليهم حين أوجدهم بهذه الأسماء ، فلم يتمكن لمن خلق بهذه المثابة أن يرفع رأسه ، ولا أن يجد في نفسه طعما للكبرياء على أحد من خلق الله ، فكيف على من خلقه؟ وقد أشهده أنه في قبضته وتحت قهره ، وشهدوا كشفا نواصيهم ونواصي كل دابة بيده ، والأخذ بالناصية عند العرب إذلال ، هذا هو المقرر عرفا عندنا ، فمن كان حاله في شهود نظره إلى ربه أخذ النواصي بيده ، ويرى ناصيته من جملة النواصي كيف يتصور منه عز أو كبرياء على خالقه من هذا الكشف؟ وأما الثقلان فخلقهم بأسماء اللطف والحنان والرأفة والرحمة والتنزل الإلهي ، فعندما خرجوا لم يروا عظمة ولا عزا ولا كبرياء ، ورأوا نفوسهم مستندة في وجودها إلى رحمة وعطف وتنزل ، ولم يبد الله لهم من جلاله ولا كبريائه ولا عظمته في خروجهم إلى الدنيا شيئا يشغلهم عن نفوسهم ،