من أعلى ـ الوجه الثاني ـ ثم دنا في إسرائه إلى السموات ليريه من آياته ، فتدلى فدل على أن نسبة الصعود والهبوط على السواء في حقه ، فجمع بين صاحب الحوت وصاحب الإسراء أنه لم يكن واحد منهما بأقرب من الحق من الآخر ، فهي إشارة إلى عدم التحيز وأن الذات مجهولة غير مقيدة بقيد معين ، فكان من آياته التي أراه ليلة إسرائه كونه تدلى في حال عروجه.
(فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى) (٩)
قاب قوسين هو التقاء قطري الدائرة ، أو هو قدر الخط الذي يقسم قطري الدائرة ، فيشقها بقسمين وهو غاية القرب ، فإن أقرب القرب أن يكون عين الخط الذي به تقسم الدائرة نصفين لظهور القوسين (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ) وهي إشارة إلى التقريب الصوري ، فإنه ما أظهر القوسين من الدائرة إلا الخط المتوهم ، ولا يكون قرب أقرب من القوسين ، إلا من كان قربه قرب حبل الوريد منه ، وهو القرب العام ، ومن عرف هذا القرب كان من المقربين ، وعرف سر الحق في وجوده وموجوداته على التنزيه ، فقال : (أَوْ أَدْنى) يعني مما تمناه العبد أو يتمناه ، وهذا أبلغ في المعنى في قوله أو أدنى ، فهو قرب قدر لا قرب مقدار. واعلم أن رؤية الحق لا تكون أبدا حيث كانت إلا في منازلة بين عروج ونزول ، فالعروج منّا والنزول منه ، فلنا التداني وله التدلي ، إذ لا يكون التدلي إلا من أعلى ، ولنا الترقي وله تلقي الوافدين عليه ، وذلك كله إعلام بالصورة التي يتجلى فيها لعباده ، وأنها ذات حد ومقدار ، فكانت كل صورة من الأخرى أدنى من قاب قوسين ، لكل واحدة من الصورتين قوس أظهر التقويس ، والفرقان بين الصورتين الخط الذي قسّم الدائرة بنصفين ، فكان الأمر عينا واحدة ثم ظهر بالصورة أمران ، فلما صار الحكم أمرين ، كان من الأمر الواحد تدليا لأن العلو كان له ، وفي عين هذا التدلي دنو من الأمر الآخر ، وكان من الأمر الآخر تدان إلى من تدلى إليه ، فكان دنوه عروجا ، لأن تدلي الأمر الآخر إليه أعلمنا أن السفل كان قسم هذا الآخر ، وما تداني كل واحد من الآخر إلا ليرجع الأمر كما كان دائرة واحدة ، لا فصل بين قطريها ، وهذا الخط الفاصل بين قسم الدائرة هو عين تميز العبد عنه ، وتميزه عن العبد من الوجه الذي كان به الحق إلها وكان العبد به عبدا ، فلما تحقق التمييز ، ووقع