ونظرت إليك فيها نظرة ، ثمّ نظرة بين هشيمه ونضره ، وفي هذا كله لا تشبع ولا تقنع ، إلا تحيط وتجمع ، وتقول : هذا ثماد من بحور ، وقليل من كثير ؛ فقلت : من أين كان للعبد أن يعرف مولاه ، لو لا ما قلت (ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ)؟ والعبد ليست له إرادة ، يطلب بها الرجوع إلى الشهادة ، إنما هي الإفادة والزيادة ، فإن وقع منك لا مني ، نطقت عنك لا عني ، وكانت لي الحجة ، واتضح لي سنن المحجة ، فوعزتك لو أبقيتني آباد الآباد ، ما طلبت منك إلا الازدياد ، فإني علمت أن النهاية محال ، فكيف أرجع عن هذا الحال؟ فإن أردت مني الرجوع إلى الملك فأشترط ، وحينئذ تقر عيني وأغتبط ، قال : وماذا تشترط؟ قلت : يكون نوري عليهم منبسط ، أرقيهم بالهمة ، وأنا خارج عن كور العمة ـ أي أبين لهم ، ولا أتقيد بهم ـ أناجي بواطنهم بقلبك ، وأنا مخبو في خزائن غيبك [قوله «أناجيهم بقلبك» أي بقلبي الذي هو متعلق بك ـ فهي إضافة ملك وتشريف ـ فأنت بعثته إليهم ، فكنت مقتديا لأمرك لا صاحب هوى] يجدون الأثر ولا يرون عينا ، ويطلبون أينا فلا يجدون أينا ـ أي إني أتبرأ من الذي أوصلت إليهم ، وأعلمهم أنه من عند الله ، وأني عبد لا أثر لي ، فيشهدون أثر الحق في ذواتهم ، ولا يرون عين المؤثر ـ فتكبر هممهم ، ويتقوى أممهم ، حتى أكون في ذلك الإرشاد والهداية ، صاحب نهاية وبداية ، فأخترق وإليّ يخترق ، ونطلب فلا نلحق ، فإن صح لي هذا الاشتراط ، وتقوى هذا الارتباط ، فإنما أنشر البساط ، وأسير بين الانقباض والانبساط ؛ قال : ارق إلى حضرة أوحى أناجيك فيها بما يكون ، وأهب لك بها سر القلم والنون ، حتى تقول للشيء كن فيكون ؛ فاختطفت مني ، وأفنيت عني ، واتفقت أمور وأسرار ، غطّى عليهن إقرار وإنكار ، جلّت عن العبارة ، ودقّت عن الإشارة ، فهي لا تنعت ولا توصف ، ولا تحدّ ولا تتصف ، وغاية العبارة عنها أن يقال : زال قلت وقال ، وانعدم المقام والحال ، ولم يبق مثل ولا ضد ، ولا مطلع ولا حدّ ، وذهبت الجنة والنار ، وفنيت الظلم والأنوار ، وفني كل قاب ورفرف ، ولم يبق جناح ولا أشرف ، واتحد السؤال والجواب ، وزال المكتوب والكتاب ، وكان المجيب هو المجاب ، ومضت البحار وأحجارها ، والحدائق وأزهارها ، ومارت السماء وطمست أنوارها ، فلم أرجع إلى البقاء بالحق ، بعد ذهاب العين والمحق ، حتى وجدت في غيابات لباب سر أسرار روح معنى قلب النفس ، ما كنت أمّلته بالأمس ، ثم توجني بتاج البهاء ، وإكليل السناء ، وأفرغ عليّ حلة