والجن من الثقلين ونحن أثقل من الجن للركن الأغلب علينا وهو التراب ، فالإنسان آخر موجود في العالم ، فما سمي الإنس والجن بالثقلين إلا لما في نشأتهما من حكم الطبيعة ، فهي التي تعطي الثقل ، وأما قوله تعالى : (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) فمن وجوه ـ الوجه الأول ـ كلمة تهديد للجن والإنسان الحيوان ، لهما يفرغ الحق ليقيم عليهما ميزان ما خلقا له ، والإنسان الكامل لا يتوجه عليه هذا الخطاب ـ الوجه الثاني ـ وصف الحق تعالى نفسه في هذه الآية بأنه لا يفعل أمرا حتى يفرغ من أمر آخر ، مع أنه تعالى لا يشغله شأن عن شأن ، ولكن لخلقه أصناف العالم أزمانا مخصوصة وأمكنة مخصوصة لا يتعدى بها زمانها ولا مكانها ، لما سبق في علمه ومشيئته في ذلك فقال : (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) أي سنفرغ لكم من الشؤون التي قال فيها : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) في هذه الدنيا ، فيفرغ لنا منا ، ولا شغل له إلا بنا ، فمنا يفرغ لنا ، وتنتقل الشؤون إلى البرزخ والدار الآخرة ، فلا يزال الأمر من فراغ إلى فراغ ، إلى أن يصل أوان عموم الرحمة التي وسعت كل شيء ، فلا يقع بعد ذلك فراغ يحده حال ولا يميزه ، بل وجود مستمر ، ووجوده ثابت مستقر إلى غير نهاية في الدارين ، دار الجنة ودار النار ، هكذا هو الأمر في نفسه ، فإن الفراغ الإلهي إنما كان من الأجناس في الأيام الستة التي خلق فيها الخلق ، وأما أشخاص الأنواع فلا ، فبقي الفراغ بالأزمان لا عن الأشخاص ، وهو قوله تعالى : (سَنَفْرُغُ لَكُمْ) ففي هذه الآية نسبة الزمان إلى الحق ، وهو انقضاء المدة التي سبق في علم الله مقدارها ، وهو زمان الحياة الدنيا في كل شخص شخص ـ إشارة ـ في هذه الكلمة (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) إشارة للحوق الرحمة بهما ، وذلك في فتح اللام الداخلة على ضمير المخاطب في (لَكُمْ) وإن كان الفتح الإلهي قد يكون بما يسوء كما يكون بما يسر ، ولكن رحمته سبقت غضبه ، وجاء بآلة الاستقبال وهي السين ، وآخر درجة الاستقبال ما يؤول إليه أمر العالم من الرحمة التي لا غضب بعدها ، لارتفاع التكليف واستيفاء الحدود ، ولما جاء بضمير المخاطب في قوله (لَكُمْ) وعلمنا من الكرم الإلهي أبدا أنه يرجح جانب السعداء وجانب الرحمة على النقيض لذلك ، جاء بحرف الخطاب ليفتح اللام ، وليعلم بآلة الخطاب أنهم قوم مخصوصون ، لأنه لا يفقد من العالم ضمير الغائب ، فلابد له من أهل ، مثل قوله في السعداء : (لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي) فأتي بضمير الغائب فغابوا عن هؤلاء المخاطبين ، وفتح اللام فتح رحمة تعطيها قرائن الأحوال