وسلب عنها العلم ، فأعطى جهل المؤمنين من أهل التقليد من كان من أهل هذه الدار دار الشقاء عالما بدقائق الأمور ، فدخل بذلك الجهل النار إذ كان من أهلها وهي لا تقبل العلماء ، وأعطى هذا العالم الذي كان في الدنيا عالما بدقائق الأمور ولم يكن من أهل الجنة جهل المؤمن المقلد ، فإن الجنة ليست بدار جهل ، فيرى المؤمن الأبله المقلد ما كان عليه من الجهل على ذلك العالم فيستعيذ بالله من تلك الصفة ، ويرى قبحها ويشكر الله على نعمته التي أعطاه إياها ، بما كساه وخلع عليه من علم ذلك العالم الذي هو من أهل النار ، وينظر إليه ذلك العالم فيزيد حسرة إلى حسرته ، ويعلم أن الدار أعطت هذه الحقائق لنفسها فيقول : (يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) لعلمهم إذا كانوا مؤمنين وإن كانوا جاهلين أنهم إذا انتقلوا إلى دار السعادة خلعت عنهم ثياب الجهالة ، وخلع عليهم خلع العلم فلا يبالون بما كانوا عليه من الجهل في الدنيا لحسن العاقبة ، وما علموا أنهم لو ردوا إلى الدنيا في النشأة التي كانوا عليها لعادوا إلى حكمها. واعلم أن العلم هو السعادة ، وأن الله إذا أراد شقاوة العبد أزال عنه العلم ، فإنه لم يكن العلم له ذاتيا بل اكتسبه ، وما كان مكتسبا فجائز زواله ويكسوه حلة الجهل ، فإن عين انتزاع العلم جهل ، ولا يبقى عليه إلا العلم بأنه قد انتزع عنه العلم ، فلو لم يبق الله تعالى عليه هذا العلم بانتزاع العلم لما تعذب ، فإن الجاهل الذي لا يعلم أنه جاهل فرح مسرور ، لكونه لا يدري ما فاته ، فلو علم أنه فاته خير كثير ما فرح بحاله ، ولتألم من حينه ، فما تألم إلا بعلمه ما فاته ، أو مما كان عليه فسلبه ، والإنسان في الآخرة مقلوب النشأة ، فباطنه ثابت على صورة واحدة كظاهره هنا ، وظاهره سريع التحول في الصور كباطنه هنا ، وعلى ذلك الحكم يكون تصرف ظاهر النشأة الآخرة ، فينعم بجميع ملكه في النفس الواحد ، ولا يفقده شيء من ملكه من أزواج وغيرهن دائما ولا يفقدهم ، فهو فيهم بحيث يشتهي ، وهم فيه بحيث يشتهون ، فإنها دار انفعال سريع لا بطء فيه ، كباطن هذه النشأة الدنياوية في الخواطر التي لها.
(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ) (٦٢)
نشأة الخلق وأحوالهم ، وما يكون منهم في القيامة والدارين ، على غير نشأة الدنيا وإن أشبهتها في الصورة ، ولذلك قال : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) أن النشأة