الآخرة ، ثم علّم ما يصلح لسكنى كل دار ، من الساكنين الذين هم ديار النفوس الناطقة ، فخلق للدار الدنيا لفنائها وذهاب عينها وتبدل صورتها ووضعها وشكلها وخفاء حياتها ساكنا هو هذه الدار التي أسكنها النفس الناطقة ، فجعل هذه النشأة مثل دار سكناها ، خفية الحياة فانية ذاهبة العين متبدلة الصورة والوضع والشكل ، فاتصف ساكنها وهو النفس الناطقة بالجهل والحجاب والشك والظن والكفر والإيمان ، وذلك لكثافة هذه الدار التي هي نشأته البدنية ، وحال بينه وبين شهود الله ، وجعله في حجر أمه ترضعه وتقوم به ، فما شهد من حين أسكن هذه النشأة سوى عين أمه ، حتى إنه جهل أباه بعض الساكنين ، ولو لا أن الله منّ عليه بالنوم ، وجعل له في ذلك أمرا يسمى الرؤيا في قوة تسمى الخيال ، فإذا نام كأنه خرج عن هذه النشأة فنظر إليه أبوه وسرّ به ، وألقى إليه روحا وآنسه ، وبادرت إليه الأرواح ، وتراءى له الحق من تنزيهه ، وبدا له ذلك كله في أجساد ألف شهودها من جنس دار نشأته التي فارقها بالنوم ، فيظن في النوم أنه في دار نشأته التي ألفها ويعرفها ، ويظن في كل ما يراه في تلك المواد أنها على حسب ما شهدها ، فهذا القدر هو الذي له في هذه النشأة الدنيا من الأنس بأبيه وإخوانه من الأرواح ومن الأنس بربه ، ومنهم من يتقوى في ذلك بحيث إنه يرى ذلك في يقظته ، وأعطاه علما سماه علم التعبير ، عبر به في مشاهدة تلك الصور إلى معانيها ، فإذا أراد الله أن يخلي هذه الدار الدنيا من هذه النشأة التي هي دار النفس الناطقة ، أرحل عن هذه النشأة روحها المدبر لها ، وأسكنه صورة برزخية من الصور التي كان يلبسها في حال النوم ، فإذا كان يوم القيامة وأراد الله أن ينقله إلى الدار الأخرى دار الحيوان ـ وهي دار ناطقة ظاهرة الحياة ثابتة العين غير زائلة ـ أنشأ لهذه النفس الناطقة دارا من جنس هذه الدار الأخرى ، مجانسة لها في صفتها ، لأنها لا تقبل ساكنا لا يناسبها ، فخلق نشأة بدنية طبيعية للسعداء عنصرية للأشقياء ، فسواها فعدلها ، ثم أسكنها هذه النفس الناطقة ، فأزال عنها حجب العمى والجهل والشك والظن وجعلها صاحبة علم ونعيم دائم ، وأراها أباها ففرحت به ، وأراها خالقها ورازقها ، وعرف بينها وبين إخوتها وانتظم الشمل بالأحباب ، وأشهدها كل شي كان في الدار الأولى غائبا ، وأسكن هذه النشأة الدار الأخرى المسماة جنة منها ، فإنه قسّم الدار الأخرى إلى منزلين : هذا هو المنزل الواحد ، والمنزل الآخر المسمى جهنم ، جعل نشأة بدن أنفسها الناطقة عنصرية تقبل التغيير ، وأصحبها الجهل